“بالأمس في اليمن المظفر دُق سهم البغي، فار النور سيّالا
على وجه الرمال
فدفعت هامي في شموخ الكبر، بالمجد المضمخ،
بالدم المطلول، أصرخ ما أزال
أسري بأعراق الأباة، أشد منهم عزمهم
حتى ولو ماتوا على الأعواد شنقا بالحبال..”
من قصيدة للشاعر اللبناني الراحل
حسين علي صعب، مهداة إلى ثورة 26 سبتمبر عام 1963
لم يكن مستغربا أن تبرز في اليمن “السعيد” (هل لازال سعيدا؟) حركات ذات طابع إسلاموي تنادي باستعادة نظام الإمامة لآل حميدالدين الذي كان قائما على التوريث حتى العام 1962، تاريخ الإطاحة بالسلالة الحاكمة على أيدي المشير عبدالله السلال ورفاقه في “حركة الأحرار اليمنيين”.
فالحكم “الجمهوري” الذي يقبع على رأسه الرئيس علي عبدالله صالح منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن بعد اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي، عمل على تكريس نظام “جملكي” عماده العصبية القبلية والعشائرية والاستئثار بالسلطة والثروة على طريق نقلها إلى وريث من العائلة أو التحالف القبلي الحاكم، وعلى طريقة معظم الأنظمة العربية التي لم تعد تملك من شرعية في بقائها في السلطة سوى “شرعية” التوريث، في غياب أي أفق للإصلاح السياسي والاقتصادي وفي انعدام التنمية الاجتماعية التي تسمح للنظام الحاكم باستمرار “الاستقرار”.
الحرب اليمنية “السادسة” بين نظام صنعاء ومتمردي محافظتي صعدة وعمران ممن يطلق عليهم “الحوثيون” دخلت شهرها الثاني دون أن تلوح في أفقها بوادر حسم من قبل الحكومة “المركزية” التي أعلنت تصميمها على المضي في القتال ولو تطلب الأمر خمس سنوات أخرى.
جديد هذه الحرب مطلع الأسبوع الماضي كان دخول الجامعة العربية على خطها، عبر الزيارة التي قام بها أمينها العام عمرو موسى إلى صنعاء وإعلانه أن مداولاته مع المسؤولين اليمنيين انطلقت من “مبدأ الحفاظ على وحدة اليمن”.
وبعيدا عن سفح دموع الأسف على ضحايا هذه الحرب الطاحنة بين مكونين أساسيين من الشعب اليمني يبدو أن لهذه الحرب من بين وظائف أخرى وظيفة افتعال خطر خارجي لشد عصب داخلي حول السلطة الحاكمة واستنفارها ضد عدو خارجي، لتغطية العجز الذي أصاب النظام المركزي في مواجهة مشكلات الداخل الكثيرة خاصة مشكلة “الحراك الجنوبي” الذي استقبل عمرو موسى بتظاهرات مؤلفة تدعو إلى “تحرير” الجنوب من “دولة الاحتلال” المتمثلة بـ”الجمهورية العربية اليمنية”!
واللافت في تطور الحرب في صعدة وعمران أن حكومة صنعاء أقدمت على نشر لائحة بأسماء تجار أسلحة تتهمهم بالعمل لصالح الحركة الحوثية وعلى رأس هؤلاء ورد اسم رئيس لجنة الوساطة مع الحركة الحوثية وهو شقيق محافظ صعدة!
هذا الإعلان يشكل فضيحة للسلطة الحاكمة في صنعاء: فهي تغاضت على ما يبدو عن هؤلاء التجار لمدة طويلة، فضلا عن استدرار التساؤل عن فئة أخرى من التجار جنت، وفق تقديرات مراقبين، ثروات طائلة من صفقات تسليح للجيش اليمني وهؤلاء ينتمون إلى الدائرة الضيقة في نظام الرئيس عبدالله صالح، كما تفيد بعض المعلومات.
ثمة وظيفة “اقتصادية” للحرب بين صنعاء والحوثيين غير خافية، وإذا كانت الحروب الداخلية بابا من أبواب تسول المساعدات الخارجية، يصير “تدويل” الحرب أو “تعريبها” وتصويرها حربا ضد التدخل الإيراني -على صوابية هذه العلة- في الشؤون اليمنية ودعم الحركة الحوثية الزيدية على مقربة من منابع النفط السعودية، سببا لتدفق المال الخليجي لتمويل هذه الحرب، وهذه حقيقة باتت عارية تحت شمس الحرب المفتوحة برا وجوا، والتي تواكبها بيانات عسكرية تقليدية عن “تكبيد المتمردين خسائر فادحة في الأرواح والعتاد”، وبيانات مضادة عن “المجاهدين” الحوثيين مدعومة بأشرطة فيديو عن إسقاط مقاتلات يمنية وأسر جنود يمنيين.
والمفاجئ في هذه الحرب المفتوحة، كان رواج سوق الوساطات العربية هذه المرة، بعدما كانت السلطة في صنعاء ترفض أي وساطة بعد إعلانها إنهاء الوساطة القطرية التي لم تفلح في التوصل إلى “اتفاق دوحة يمني” على غرار “اتفاق الدوحة اللبناني”. وتبدو صنعاء كأنها تستدعي التدخل العربي، وحيث أطلقت قيادة الحراك الجنوبي سلسلة تحركات في المحافظات الجنوبية مطالبة بانفصال الجنوب تزامنا مع زيارة عمرو موسى إلى صنعاء.
يوحي هذا التطور بعجز حكومة صنعاء عن الحسم العسكري الذي توعدت به الحركة الحوثية منذ الأيام الأولى لتجدد المعارك، وبأنها تسعى إلى التعويض بالسياسة عما عجزت عن تحقيقه بالحرب، أو أنها تقوم بمناورة تمهيدا للاستجابة إلى ضغوط عديدة من أجل إنهاء المعارك وما تسببه من كوارث إنسانية تسببت حتى الآن بتهجير 150 ألف مواطن يمني من مناطقهم، وتعمل منظمات الإغاثة الدولية على الوصول إليهم وإيوائهم في مخيمات مؤقتة ريثما ينجلي غبار المعارك عن المناطق التي نزحوا عنها.
أمام هذا الواقع اليمني المأساوي القديم-الجديد، بات من المطلوب بالحاح إعلان وقف فوري للعمليات الحربية ووقف النزيف الحاصل وفتح الطرقات والممرات الآمنة لفرق الإغاثة لتمكينها من العناية باللاجئين، على أن تنطلق أي مبادرة من قناعة استحالة الحسم العسكري للصراعات الجارية في اليمن.
ومن حق اليمنيين والعرب عموما أن يسألوا، لماذا تهدر هذه الأموال الطائلة على شراء السلاح وعلى القتل والتدمير، بدلا من استثمارها في ميادين التنمية الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية والتعليمية في المناطق اليمنية كافة.
لا تبدو هذه الحرب العبثية فصلا من صول الصراع السياسي بطرق عنفية، فلهذه الحرب أسباب أبعد من النزاع على السلطة، واليمن كان ولا يزال أحوج ما يكون إلى عقد جديد من الشراكة بين جميع مكوناته السياسية والاجتماعية وبين الطبقة الحاكمة والشعب.
لقد قضت الفردية في الحكم على “الديمقراطية الغضة” التي أنجبتها تجربة الوحدة في العام 1990 والتي أطاحت أيضا بالوحدة بصفتها شراكة بين متساوين.
وهذه الفردية في الحكم شمالا وجنوبا واعتمادها على العصبية القبلية غذت معارضات وتمردات عصبية مقابلة، وأدت إلى نشوء سياسة تمييز بين المواطنين على صعيد حقوق المواطنة وحرية الفكر وكل ذلك كان من شأنه أن يغذي النزعات الانفصالية والطموحات الاستقلالية عن حكم الدولة المركزية.
أما “الحراك الجنوبي” فلا يعقل أن يكون حله خارج دولة اليمن الموحد شرط قيام شراكة حقيقية ومساواة، ولأن البديل عن هذه الوحدة يستحيل أن يكون بالعودة إلى “نظام إشتراكي” في الجنوب، أنهاه قادته، وبصورة دموية بشعة بأيديهم في العام 1986، بل دويلات ومشيخات قبلية. ولا بد، من أجل إعادة الروح إلى الوحدة، من الاعتراف بوجود “مسألة جنوبية” أنتجتها “حرب الانفصال” عام 1994، وما أعقبها من ممارسات التهميش والتمييز بين مواطني دولة الوحدة. ومن ثم الشروع بمعالجة تبدأ إعادة المفصولين إلى مراكزهم ووظائفهم ومنحهم جميع حقوقهم المادية والمعنوية.
المطلوب فورا إنهاء هذه الحرب الدموية والولوج في حوار وطني شامل وإقرار تعديلات دستورية تمنع التوريث السياسي وتلغي التفرد بالحكم الذي نجم عن الشرخ الحاصل بين النظام الانتخابي المعمول به شكلا والنظام الرئاسي الممسك بكل تقاليد السلطة مضمونا.
ولا بد من العمل على تعزيز التعددية السياسية والحزبية والإعلامية ومحاربة الفساد وتطبيق مبدأ المحاسبة في مراكز السلطة بمستوياتها كافة، وإعادة الاعتبار إلى مبدأ تداول السلطة والتوجه دون إبطاء إلى إجراء الانتخابات البرلمانية المؤجلة وانتخاب رئيس جديد لجمهورية الوحدة.
خلاف ذلك سوف يسهم في المزيد من تفكيك اللحمة الوطنية ويغرق اليمن في أتون صراعات داخلية مفتوحة، وفي جعله ساحة للصراعات الخارجية وأداة لها، بما يضمن أنه لن يعود “سعيدا” بعد اليوم!
Leave a Reply