بعد أن «انتصر» الإمام أحمد على خصومه الألداء الذين حاولوا قتله أو إعدامه رمياً بالرصاص، وبعد أن فشلت مهمتهم التي لم يكن قد خُطط لها التخطيط المنظم الذي يضمن النتائج ويُنهي مأساة شعب بأسره، ويُنقذ هذا الشعب من الجحيم الذي يعيش في أتونه، وبعد أن استطاع أحمد أن يُمزق بخبثه ومكره ودهائه وحدة القوى المعادية له، وبعد أن استعاد جزءاً يسيراً من عافيته وقدرته على التحرك والحركة، وبعدما رأى بعينه كيف أن أخصامه سلموا رقابهم للجلاد الذي يحمل بيده السيف اللعين وليضرب به تلك الأعناق الأبية ضربة هي الفاصل بين الموت والحياة وبعدما تتلذذ أحمد برؤية الدم الطاهر وهو ينساب من الرقبة التي قطعها السيّاف فاصلا الرأس عن البدن، وبعد أن ارتوت الأرض اليمنية الطاهرة من دماء الشهداء والأحرار، الذين قدموا أرواحهم قرابين فداء على مذبح الكرامة والشهامة وعلى مذبح التضحية القصوى والعطاء.
بعد هذا كله، تنفس أحمد الصعداء وشعر بأنه عاد كما كان (ملكاً سيدا آمراً ومُطاعاً) متناسياً أو متجاهلا بأن التاريخ لا يرحم وأن هذا التاريخ سيكون الحكم العادل، وأن الظلم والجور والبغي والعدوان على كرامات الأمم والشعوب المستضعفة، هذا التاريخ لن يغمض عينيه عما يرتكبه كل حاكم ظالم ومستبد، بل ستكون له يوماً القدرة والقوة التامة لانزال العقاب الشديد والصارم بحق كل حاكم متهور يستبيح كرامات الأمة ويسوق أبناءها إلى ساحات القتل والنطع والإعدام بالسيف تارة وبالرصاص تارات أخرى وإلى النهاية المحزنة التي لا يمكن لها إلا أن تدفع بالأمة وأبنائها الأبرار للوقوف وقفة الجبل الصامد والراسخ الذي يتحدى اليوم، وكل يوم، أولئك الطغاة الذين سيواجهون الموت يوماً ويدفعون فيه ثمناً باهظاً كجزاء عادل، إنتقاماً منهم لما ارتكبوه من جرائم بحق شعوبهم دون الأخذ بعين الإعتبار أو مراعاة لأحاسيس الناس وكرامتهم ودون خشية من الله القادر على سحق رؤوس هؤلاء الطغاة تحت أقدام الشعب الذي إن أراد الحياة يوماً فلا بد أن يستجيب القدر.
لذلك نقول هذا مجازاً بأن الإمام أحمد قد «انتصر» على شعب كان أعزلا، شعب مزقته المكائد والخلافات القبلية وبددت قواه يمنة ويسرة، النزاعات المستحكمة والتي حالت دون الوصول إلى الفصل الأخير من المأساة التي كان يعيشها شعب اليمن بكل أطيافه.
لقد «انتصر» إنتصاراً هزيلا، كيف لا وقد خرج من المعركة مصاباً بشللٍ أقعده عن الحركة كلياً، وبقي حتى اللحظة الأخيرة من حياته فاقدا الإحساس بطعم وحلاوة الحكم، ولذة التحكم برقاب العباد بعد الإنتصار!!
بسبب عدم قدرته على التحرك بحرية تامة، إذ وُضعت في سقف الصالون الذي كان يُمضي فيه كل يوم أكثر من عشرين ساعة يمضيها وهوتحت رحمة الحبال المعلقة في سقف الغرفة، كي يتحرك فيجذب الحبل لينتقل من زاوية إلى زاوية.
وكم كنت أتمنى أن تكون بين يدي تلك الصور التي التقطها أنا بنفسي عندما زرت قصر الإمام أحمد والغرفة التي ينام فيها، وكيف أنني رأيت ما ذكرته آنفا من الحبال المعلقة بالسقف والزاوية التي وضع فيها فراشاً للنوم، وأي كتاب كان يقرأه الإمام في اللحظات الأخيرة من عمره، وقد كان كتاباً يحمل إسم «الساعات الأخيرة» لمؤلفه الكاتب المصري المعروف أنيس منصور.
لقد كان نصراً محدوداً ومنقوصاً لأكثر من سبب لا مجال لذكرها الآن.
الثورة اليمنية بتفاصيلها الدقيقة!
ومحاكمة العقيد الثلايا بعد إعتقاله
فضّل الإمام احمد أن يبتعد عن الشمال وهو المقاتل الشرس – أي الشمال – وقرر أن يتخذ من مدينة تعز مقرا وعاصمة له، وذلك كان عام 1955، وكان قائد الجيش يومئذ العقيد أحمد الثلايا وهو من المناطق الشمالية وبالذات من مدينة ثلا التاريخية وكانت أهداف الثورة تنحصر فيما يلي:
أولا، إقصاء الإمام أحمد عن الحكم دون قتله وإسناد الإمامة في المملكة إلى أحد اخوانه المثقفين، لذا كان اختيار الإمام الجديد الأمير عبد الله بن يحي حميد الدين شقيق الإمام أحمد.
كان الجيش يومئذ جيشاً واحداً وتحت قيادة العقيد أحمد الثلايا. لقد اتفق القائد الثلايا مع رجال الحرس الذين يحرسون قصر صالة المقيم فيه الإمام أحمد، وقال لهم: إن هذا الأمر مني، وقال الثلايا: الإمام أحمد مسجون بأمري، وأصبح مواطناً عادياً والأمر إليكم ألا تدعوه يخرج من القصر أبدا، وهو سجين لديكم الآن. طبعاً، إتصل القائد الثلايا بعدها بالإمام أحمد الموجود في قصر صالة بتعز وأخبره – بأنك الآن بت معزولاً وبات الإمام الآن مكانك عبد الله بن يحي حميد الدين. هنا رد الإمام أحمد تلفونياً على القائد الثلايا قائلاً له: لا ضير، لقد تنازلت عن الحكم من يدي اليمنى إلى يدي اليسرى، وهذا هو المكر بعينه!
وبالفعل فلقد نُصّب عبد الله بن يحي إماماً، وطبعاً بدأت المبايعة له من قبل شيوخ القبائل وأهل الحل والعقد.
لقد استمر هذا الحكم عشرة أيام فقط بمعنى أن إمامة عبد الله بن يحي، هذه الإمامة والمبايعة لم تدم طويلا.
كيف كان ذلك، لذا نقول، أنه كان للإمام أحمد بنتاً تقيم في قصر صالة وإسمها أمة الرزاق وللخروج من عنق الزجاجة وجهها والدها الإمام المعزول أحمد وطلب إليها الخروج شخصياً من القصر وتقوم بإتصالات برجال الحرس الذين يتولون الحراسة للقصر ومن يقيم فيه وطلب إليها أن تستميل رجال الحرس، وتتودد إليهم وبالفعل قامت أمة الرزاق بمهمتها على أكمل وجه ونجحت، ثم عمدت إلى عجن الرماد مع الكيروسين وهو نوع من أنواع الوقود للطبخ، مع العلم أن الطبخ كان مفضلا بالحطب وبعد عجن الرماد بتلك المادة قسمت الكمية المعجونة إلى كرات وطرحتها على شرفات البيت وعلى قلاع الحراسة حول البيت، ثم أشعلت النار في تلك الكرات ووضعت بعض الكرات على شرفة قصر صالة والباقي على شرفات القلاع وأخذوا، بعد أن أشعلوا النار في هذه الكرات، أخذوا يصيحون وبصوت واحد قائلين: نصر الله الإمام أحمد، نصر الله الإمام أحمد، لقد انطلت هذه الخديعة على رجال الحرس وظن الجميع أن الإمام قد عاد إلى الحكم. وعندما رأى الإمام المعزول هذا التجاوب خرج بالليل ذاهباً إلى قصر العرضي الذي يقيم فيه شقيقه عبد الله الذي نُصّب إماماً، فألقى القبض عليه وكان مع الإمام المعزول عدداً من رجال الحرس فتم إلقاء القبض على عبد الله، وسيق إلى السجن ليكون في ضيافة الإمام نزيلا غير مكرّم أبدا.
هنا، وبعد أن انتشر خبر إعتقال عبد الله الإمام الجديد، على يد الإمام أحمد، ما كان من العقيد أحمد الثلايا إلا أن هرب من مدينة تعز، لكن أوامر القبض عليه لاحقته حتى تعز، إلى أن تم إعتقاله وسُلّم للجلاد أحمد ولزبانيته.
بقلب بارد جداً، وبموت كلي لأية مشاعر إنسانية أخوية تم إعدام الإمام الجديد عبد الله، وهو شقيق الإمام أحمد، ثم قدم الثلايا للمحكمة، التي وبسرعة حكمت عليه بالإعدام.
كان الثلايا – رحمه الله – قائداً عسكرياً شجاعاً وقف وخاطب الجلاد أحمد وجلاديه وزبانيته، قائلا لهم: أنا لا يهمني الإعدام أبداً، ولست خائفاً منه بتاتاً، وأنا ما ثُرت إلا من أجل الشعب اليمني العظيم والمطحون.
رد عليه الجلاد أحمد قائلاً: سوف أنحي الحكم جانباً وأترك محاكمتك للشعب اليمني. قال الثلايا: أنا موافق لأنني أثق بهذا الشعب ثقة كبرى. هنا تبدو النوايا السيئة والمبيّتة وكما يظهر أن أحمد بن يحي قد استطاع أن يؤلب البسطاء من الناس وأن يقدم لهم ألف رشوة ورشوة، وهي بالنسبة لشعب يعيش في أتون حكم ظالم مستبد، وأتون من الأحقاء والكراهية العمياء مشتعلا دائماً عمد أحمد بن يحي وزبانيته إلى إضرام نيرانه بشكل دائم ومستمر مصمماً على تقديم الضحايا لهذا الأتون، لا فرق بين أن تكون الضحية كبشاً أو ناقة أو إنساناً وطنياً ثار على الأوضاع العفنة وعلى تقاليد بالية وعلى عبودية أغرقه فيها هذا النظام الجاحد الكافر بأنعم الله، والكافر بالقيمة الإنسانية التي يمثلها، والرافض أبدا لكل أمر فيه إصلاح وبناء وتعليم.
لقد كره هذا النظام العلم وأهله، كما كره النور الذي هيأه الله لعباده، كما كره أن يعيش أبناء الشعب حياة نظيفة وشريفة وطاهرة وكره كل ما من شأنه أن يساعد على إشاعة النور وحلوله بدلا من الظلام. كما تعلق بالجهل، رافضاً أن يدع العلم الحقيقي يدخل إلى أذهان الناس وعقولهم، ورفض أن يتمتع الشعب بصحة جيدة ونظافة تامة واستقرار يقوم على أسس فيها الخير كل الخير للشعب والوطن. لقد كمم الأفواه بالبطش القاتل وأخرس الألسنة ومنع كل عاقل متنور من أن ينقل ما تعلمه في المدارس والكليات، خارج حدود اليمن لدرجة أن التهديد بإعدام كل من يحاول الخروج على الأنظمة التعسفية العفنة وكل من يتصدى لحجافل الجهل والظلام بفيض كبير من العلم والنور والمعرفة، والتهديد بقطع الرأس مها كلف الأمر.
لذلك عمد أحمد بن يحي إلى دعوة «الشعب» إلى مشاهدة محاكمة الثائر الثلايا وسط ميدان بكرة القدم في تعز، وجيء بالناس البسطاء الذين أرعبت قلوبهم الجرائم الوحشية التي أقدم عليها نظام أحمد بن يحي حميد الدين، بعد أن أغدق عليهم بواسطة عملائه وزبانيته وجواسيسه، مساعدات ورشاوى لا تسمن ولاتغني من جوع، لقد أحضر الناس إلى ميدان كرة القدم وبعد أن احتشدت الجماهير المسكينة التي عانت من نظام أحمد بن يحي حميد الدين شتى أنواع الظلم والإستبداد والقتل والتعذيب فضلا عن إلقائهم وهم أحياء إلى داخل أقفاص فيها مجموعة من الأسود الشرسة الجائعة والعطشى، وقد يتم تجويعها قبل يومين من إلقاء الضحية كي تتم عملية الإلتهام والتمزيق بسرعة مذهلة.
لقد وُفق أحمد بن يحي وزبانيته في ترتيب وتدبير جوقة من النفعيين والذين لا هم لهم إلا أن يقبضوا أجرهم بعد أن يؤدوا دورهم الضلالي المزيف المنحصر في ترديد كلمة أو اكثر تم تعليمهم إياها وتحفيظهم لها وكيف يقولونها. وسنبين للقارئ أية مهزلة تم تمثيلها بمشاركة جمهور من البسطاء المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة ، يرتجفون دائماً خوفاً وهلعاً من إعدامات أحمد بن يحي للعديد من الشباب القومي العربي المكافح من أجل تحرير اليمن من قبضة الطغاة والبغاة.
التمثيلية المحزنة.. والصورة الفضيحة المركبة
العقيد الثلايا معتقل ومكبل اليدين والقدمين، وجمهور من الناس المساكين يحتشدون في ملعب كرة القدم في مدينة تعز، وما يشبه المحكمة قد تصدرت مكاناً في الصدارة هنا، قال أحمد بن يحي مخاطباً الثلايا: إسمع «الشعب» ماذا يقول. ثم وجه كلامه نحو «الشعب» المزور والذي قام بدوره جيداً. إن هذا الضابط كان جندياً مغموراً، أنا رقيته إلى رتبة عقيد وجعلته قائدا للجيش اليمني، فخان الأمانة وتمرد على الأوامر والتعليمات. ماذا تريدون أن يكون الحكم عليه؟
قال «الشعب» المزور، وبصوت واحد: الإعدام!
وقال أحمد بن يحي: منحته بيتاً في تعز مجاناً فخان الأمانة متمردا، ما حكمكم عليه؟
قال الشعب «المزيف» الإعدام.
قال أحمد بن يحي: وكان عندما ينتقل من ولاية إلى أخرى ومن محافظة إلى ثانية كنت أنقله بالطائرة مجاناً أيضا. فما يكون الحكم عليه بعد أن ارتكب ما ارتكب؟
قال «الشعب» المطحون: الإعدام.
هنا أصبحت الأحكام التي صدرت بحق الثلايا ثلاثة أحكام، رد الثلايا قائلا: لقد أقدمت على ما أقدمت عليه وكنت مرتاح الضمير جدا، وأنا ما ثرتُ على النظام وأهله بل وجلاديه إلا عندما رأيتكم بهذه الحالة الكئيبة المزرية، لقد ثرت من أجلكم وفي سبيل الدفاع عنكم لأنني كرهت النظام وأربابه حينما تأكد لي أنكم تعانون كل أسباب القمع والفقر والبؤس والشقاء، أنا ما ثرت إلا من أجلكم ومن أجل أن تعيشون كما يعيش البشر، بل كما يعيش هؤلاء الذين يستعبدونكم ليلاً نهاراً ومنذ زمن بعيد.
هنا رد عليه البعض من المنافقين عملاء النظام وخدمه وبتوجيه من أحمد بن يحي: إنك تستحق الإعدام! رد عليهم العقيد أحمد الثلايا، وبصوت عالٍ قائلاً: قبحت من شعبٍ أردتُ لك الحياة، وأردت لي الموت ونطق بالشهادتين قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
هنا وفي هذه اللحظات، وبشجاعة الأبطال والأحرار قدم رقبته للسياف وقال له: أضرب، فهوى السياف بسيفه ضارباً رقبة العقيد الثلايا، الذي ما مرت لحظات حتى كان الثلايا الشهيد يتخبط بدمه الطاهر الزكي جسدا بلا رأس.
هناك حكمة بليغة ترددها الشعوب دائماً وعندما تتأزم الأمور مع الحكام الطغاة، هذه الحكمة البليغة تقول فليهنأ الطغاة، وليدركوا جيدا أن لكل ظالم نهاية وخيمة!
وهذا في النتيجة، ما حصل لمن كان يحكم اليمن بالسيف والحديد والنار والبارود، إلا فليتق الله أولئك الذين يربضون على صدور الشعب ويمعنون في إهانته وإذلاله، ولكن ذلك لن يدوم.
Leave a Reply