عباس الحاج أحمد
منذ صِغَري، عشقت الجريدة بكل تفاصيلها. من الصفحة الأخيرة إلى الصفحة الأولى، رأيت فيها عوالم متعددة. عوالم تبدأ بالغرائب وتصل إلى الرياضة بعد أن تعبر الثقافة والسياسة.
تلك الجريدة كان يحملها أبي في جيبه كل يوم. أنتظر عودته ليلاً لأتنعم بهذا الكنز الذي أسافر به عبر المكان والزمان. كان عمله في بيروت. يعود كل يوم حاملاً جريدته وكأنّه يحمل العالم الخارجي بين يديه.
مع صفحة الثقافة يحمل كافكا وكامو وزياد الرحباني ومسارح الحمرا. مع صفحة الرياضة يحمل نادي النجمة مع المدينة الرياضية، وبرشلونة مع نيوكامب، ومايكل شوماخر مع حلبته.
في صفحة السياسة يحمل معه الخريطة وكل من يتنازع عليها. أتصفحها ليلاً وأعود إليها في اليوم التالي لأتابع التجول بأقدام الحروف على أرصفة الصفحات.
لم تكن تلك الأوراق المحمولة بيد أبي والتي تبللت كلماتها بعرقه مجرد أوراق، كانت مصنعاً للأفكار، تأشيراتٍ للتنقل، نوافذ للرؤية، مناظير للرصد، آلاتٍ موسيقةً عازفةً، وكُرات متدحرجة ألعب بها.
جسدت لي تلك الجريدة، قيمة الأقوال الفعّالة. كلمات مبللة بالعرق، كفيلة بأن تصنع لنا في أصعب الظروف، أملاً مكتوباً بالشعر أو مرسوماً بلوحة تحيط بها مقالة إلهامية أو سيرة نجاح لرجل أعمال بدأ من الصفر في وطنه قبل أن يصعد سلم الـتألق في عالم هجرته.
كلمات، سبقت عصر الفيسبوك فكانت سفينة نجاة لأطفال الضيعة المسجونين في صندوق تتواتر فيه صور نمطية معلقة على «عواميد الكهرباء» في الشوارع.
في يوم الرجل العالمي الواقع في 19 نوفمبر الماضي، أستذكر عرق رجل اسمه الأب. عرق حمل بتعبه تأشيرات سفر تصنع شغفاً وإلهاماً وعوالم متعددة بروتين يومي تزودنا به أوراق جريدة.
جريدة، كسرت بها روتين الاستسلام لواقع لا يحفز أبداً على قراءة متمعنة. واقع يمنعك من أن تسمع اتصالاً هاتفياً سجله التاريخ ليأتي من بعده استقلال دولة. واقع يمنعك من أن تجرب لتفشل قبل أن تنجح. ولكن تبقى دائماً قوة الكلمة صامدة حتى ولو حُرّف النص أو تغيرت الرواية، فالعرق المجبول بها يلهم دائماً حدس الرجال.
Leave a Reply