نظم الحكم العربية.. وجد العلمنة والأسلمة
مثلت علاقة الديني بالسياسي قضية وإشكال منذ أن إحتكّت البلدان العربية والإسلامية بدول أوروبا سواء خلال فترات الحروب أو فترات السلم التي وفرت فرصة لإحتكاك النخب خلال ما عرف بحركة الإستشراق أو خلال البعثات العلمية العربية إلى دول الغرب. وقد إكتشف الشرق نظما للحياة وطرائق في الحكم لم يألفها من قبل مثّلت حالة من الإنبهار بالنسبة للبعض الذين راموا تقليدها ورأوا فيها مخرجا لحالة التخلف التي كانت تعاني منها المنطقة، في المقابل رأى بعض آخر أنّها نظما فاسدة لا تستهدف إلاّ خلخلة البنى الإجتماعية وضرب العرب والمسلمين من خلال أهم جامع لهم ألاوهي منظومة الدين.
وقد عرفت الدول العربية بعد إستقلالها نظم حكم إختلفت قربا أو بعدا من نموذجين، النموذج المحلي ذي المرتكزات الإسلامية والنماذج الغربية سواء الإشتراكية أو الليبيرالية واللتان تشتركان في قاعدة اللائكية والعلمانية.
وإستمرت البلدان العربية تتقارب وتتنافر في علاقاتها فيما بينها وكذلك بينها وبين الخارج بحسب النماذج والأنماط الإيديولوجية السائدة في كل دولة والتي كانت تتوثّق عراها كلّما تماثلت قواعد الحكم والنظام المجتمعي وتتباين وتتباعد كلّما أُفتقدت القواسم المشتركة.
لقد ظل موضوع الديني والسياسي سؤالاً يتجدد كلما فشلت تجربة نظام أو دولة دينية كانت أم علمانية أو صعود نظام أو تولي حاكم جديد، وقد أصبح هذا السؤال أكثر إلحاحاً في حياة العرب اليوم، خاصة بعد أن عرفت البلاد العربية زلزالاً سياسياً تمثل في ثورات عارمة أطاحت بدول وأنظمة ومازالت إهتزازاتها تتوالى وقد تطيح بعدد آخر من الأنظمة.
لم يعد موضوع علاقة السياسة بالدين ترفاً فكرياً أو حكراً على النخب والمثقفين، فقد أدلى الجميع بدلوهم حتى العامة من الناس، خاصة بعد أن إستفاضت وسائل الإعلام، بكافة أنواعها وأشبعته لكّاً وعجناً.
مـن الجَدل إلى الجدال: تأبيد الأزمات
إنّ المتتبع لما يحدث في البلاد العربية وفي ساحاتها السياسية يخلص إلى أنّ مستقبل المنطقة على كف عفريت، فحالة التشرذم والتفتت السياسي والصراع الإديولوجي، بلغت حدّاً خطيراً والقادم أخطر، وبغض الطرف عن كون ذلك يحدث كحالة تنفيس عن سنوات القمع التي عاشتها البلاد العربية أو هو نتاج عمل الأيادي الخارجية فالمحصلة واحدة وهي حدوث “إسهال سياسي” بكثرة الأحزاب وتصارع الأفكار والأديولوجيات بطريقة عشوائية حوّلت الحياة السياسية والإجتماعة العربية إلى سوق عكاظ وساحة جدال لا ينتهي على الرغم من أنّ هذه البلدان المتحررة حديثا من نير نظم دكتاتورية تحتاج إلى جهد كل أبنائها في البناء للنهوض من جديد خاصة في واقع إقتصادي عالمي صعب. ورغم أنّ الأحزاب كان عليها أن تنهض لحل مشاكل شعوبها وإستنباط الحلول لتطوير الواقع إلاّ أنّها لم تفعل ذلك وإنخرطت في صراعات فكرية وإيديولوجية عقيمة وجرّت الشارع ورائها إلى المنابر العامة وكبّ الزيت على النار في حملات إنتخابية أفرزت واقعا سياسياً وإجتماعياً أكثر هشاشة.
إنّ جرّ الشعوب لتناقش البدائل والنظم في الشوارع ومن على شاشات التلفاز ولّد شارعاً سياسياً متشظياً وقابلاً للإنفجار بسرعة، ممّا زاد في توسع الشرخ بين التيارات السياسية العلمانية منها والإسلامية، ممّا قد يستنزف الطاقات ويؤبّد الصراعات ويبطىء حركة التطوير والنمو.
وقد ظهرت نتائج لهذا الصراع، فالتيارات العلمانية والليبرالية لازالت إلى حدّ كتابة هذا السطور تحاصر البرلمان في تونس حيث إجتماعات المجلس التأسيسي الذي تقوده حركة النهضة الإسلامية وغاية المعتصمين فرض قوانين من خارج البرلمان في الدستور الجديد الذي سيكتب فرغم أنّ الشعب إنتخب ممثليه وورغم ان القوانين تسن داخل البرلمان ولا داخل الساحات إلاّ أنّ التيارات العلمانية إستمرت في ضغطها خوفا ممّا تسميه “خطر أسلمة القوانين”. إنّ حالة الـ”لا ثقة” التي سادت بين الأحزاب المختلفة إيديولوجيا في المنطقة العربية ولّدت حالة من الغوغائية السياسية التي يصعب حلّها.
لم يقتصر الصراع على مبدأي “العلمنة” و”الأسلمة” فقط، بل وصل الجدل إلى الحديث عن حجم وعمق العلمنة والأسلمة في القوانين التي ستسيّر النُظم الجديدة، فقد تسرّب الصراع إلى داخل الإتجاهين نفسهما، فهناك تيارات داخل العلمانيين تذهب أقصى اليسار لتدعو إلى قطع أيّ علاقة مع التيارات الدينية أو السماح لتدخّل الدين في النظم المزمع تأسيسها، أما التيارات الدينية فقد أفرزت هي الاخرى أحزابا تدعو إلى تكثيف جرعات الأسلمة في نظم الدولة وترى أنّ هناك تقصيراً من بقية التيارات الإسلامية الأخرى، ويمكن هنا الإشارة إلى الحالة المصرية التي يقدّم فيها حزب “النور” -الذي يصنف بالسلفي- نفسه بديلا عن حزب “الحرية والعدالة” التابع لجماعة “الإخوان المسلمين” والتي يرى أنّها مُقصّرة في تضمين مبادئها قوانين تمّكن من مزيد تحقيق وتعميق أسلمة نمط الحياة في مصر.
هكذا هو واقع أغلب البلدان العربية الآن، فإن لم تستطع النخب والطبقات السياسية أن تتجاوز مأزق الجدال حول العلمنة والأسلمة، أو علاقة الديني بالسياسي، أي الطبيعة الإيديولوجية للنظم القادمة والمنشودة، فإنّ الأزمات الحالية ستتأبّد وستستعصى على الحل، مما ينذر -لا قدّر الله- بالثبور وعظائم الامور.
من الأسس الفقهية إلى النماذج التاريخية
إنّ نقاش علاقة الديني بالزمني أو بالسياسي ليس بالأمر المُستحدث أو الجديد في الثقافة العربية الاسلامية، بل إنّ كثير من فقهاء السياسة الشرعية، كالموردي وابن قيّم الجوزية في “الأحكام السلطانية”، وابن قتيبة في “السياسية الشرعية” وابن خلدون في “مقدمته”، قد تناولوا هذه العلاقة وبيّنوها، إلاّ أنّ الأمر كان يلتبس كل مرة على رجالات السياسة الذين كانوا يخلطون دائما، حسب ابن قيم الجوزية، بين النقل في فرع العقيدة والعبادات وبين المصالح المُرسلة في فرع المعاملات والتي أساسها العقل.
رغم أنّ هناك أسس وقواعد فقهية تُعطي قواعد لممارسة حرية الإستنباط وتطوير الحياة الفكرية والسياسية، إلا أن الإشكال ظل يتردد ويعود كلّما أثير موضوع طبيعة الدولة أوأسلوب الحكم في البلاد العربية وهو أمر محيّر فعلاً ولكن إذا عُرف السبب بطُل العجب.
إنّ مردّ الأزمة أسباب أهمها:
1- التوظيف السياسي للدين، لإسترضاء قطاع واسع من الشعوب وتسهيل إنقيادهم وللتغطية بذلك على إخفاق سياسات الدولة. ويمكن هنا أن نذكر مثالين من التجربتين اللتين حدثتا في عهدي جعفر النميري الذي كان رئيسا للسودان ما بين عامي 1969 و1985، وضياء الحق الذي كان رئيسا لباكستان ما بين عمي 1977 و1988، واللذان لجأ إلى تطبيق الشريعة في ظل واقع من التدهور الإقتصادي وإنغلاق الحياة السياسية ومصادرة الحريات مع تملّق لمشاعر العامة بتطبيق الحدود. لقد قدّمت التجربتان صورة مشوهة عن الإسلام خارجياً، أمّا داخلياً، فلم تحُلّ التجربة مشاكل الفقر والمرض والخصاصة وتفشّي الأميّة ولم تبنِ مجتمعاً حراً وديمقراطياً.
ولنا أن نتساءل، هل قامت تجربتا تطبيق الحدود في مجتمعين مثاليين، أي “مجتمع الكفاية”، حسب القواعد والشروط الفقهية التي بيّنها فقهاء السياسة الشرعية الإسلامية؟ أي هل وفّر النظامان لقمة العيش الكريمة للمواطن قبل تطبيق العقوبات عليه؟
2- عدم الفهم والخلط بين الفكر الديني والنماذج التاريخية التي قامت في التاريخ العربي والتي ليست إلاّ إجتهادات بشرية في واقع ما، وتاريخ مخصوص. فكثيراً ما يستحضر بعضهم نماذجاً يعتبرها ناجحة قامت في التاريخ العربي، يريد أن يستنسخها ويراها قائمة الآن، وهي عملية لإسقاط الغائب على الحاضر رغم إختلاف الواقع والزمان والمكان، وهي نماذج “حالمة” لأنّه لا يُمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، فهل يعقلون؟
3- إلتباس المقدّس بين البشري والديني، وذلك بأن تبلغ منزلة بعض المرجعيات أو الفقهاء حدّ القداسة في أذهان الأفراد أو المجموعات ويُصبح كل ما يصدر عنهم مقدّس وغير قابل للنقاش فتتحوّل “النماذج-النظم” التي تحدث عنها المراجع والفقهاء، والتي لم تتأسس إلاّ في المدونات والكتب مطلباً للعامة ومثالاً راسخاً في المخيلة الشعبية والجماعية للشعوب على رغم عدم واقعيتها أو قابليتها للتحقق، فتكون النتائج أن يتأزم الأمر بإصرار الفرد أوالجماعة على تنزيل وتطبيق النموذج-المثال في واقع مختلف، فإما يقع صده فيصبح أكثر راديكالية، أو ينفذ النموذج فيكون مشوّهاً لعدم توفر شروط تحققه في الواقع، مما يبعد المنافع ويجلب المهالك على خلاف القاعدة الشرعية في فقه السياسة، والتي تقول أنّ غاية كل نظام إسلامي هي جلب المنافع ودرء المهالك.
4- الدفاع عن الهوية، خاصة في المراحل التي يواجه فيها الشعوب إستعماراً أو غزواً خارجياً أو عملية قمع إيديولوجي من نظام حاكم يحدث معها محاولة لسلخ للثقافة وللهوية وتبديلها بأخرى سواء كانت دخيلة أو مناقضة لإيديولوجية المقموع فتكون ردة الفعل أوتوماتيكية، وهي أن يعود فيها الشعب إلى أقرب شيء يمثل ذاتيته وثقافته، ألا وهو الدين. وقد حدث مثل ردة الفعل هذه لمّا رفض العرب، بعد غزو المغول لبغداد سنة 656 هجرية، الخضوع لقانون “الياسق” الذي كان يعتبر “شريعة” المغول، وكذلك لمّا واجه المصريون وأهل الشام محاولة نابليون بونابرت الذي إجتاحت جيوشه المنطقة سنة 1798 ميلادية، والذي سعى إلى إجبار أهل البلاد على الإلتزام بالنظم الفرنسية فإزداد التمسك بالدين وبالهوية العربية ردّاً على سياساته.
إنّ كثرة الصراعات والإختلافات، التي وصلت في كثير من التجارب والدول إلى حدّ التقاتل بإسم إيديولوجية علمانية كانت أم دينية، لم تكن في الحقيقة إلاّ صراعات مصالح تتخفّى وراء الشعارات والمُثل، بإسم الشعوب.
لقد قامت الثورات لحماية الديمقراطية والهوية والمصلحة العامة، فالشعب كان دائماً شعار وغاية كل تغيير، لكنّه كان في كل مرة، ومرة بعد مرة، يفيق على وَهْم وقبض من الريح.
فهل تتوالى الحقب وسنين العرب عجافاً، وسياساتهم عرجاء وخرقاء؟ أم هل يستطيع شباب البلاد العربية أن يستعيد زمام المبادرة ليزهر ربيعه ثانية، ويظل أخضر وليبني مستقبلا مشرقا وبلدانا زاهرة وديمقراطية بعيدا عن مكيافيلية تجار السياسة وعرّابي الحروب؟
Leave a Reply