محمد العزير
تبعث الصورة الأولية لموسم الانتخابات المحلية في ديربورن، الأمل في نفس أي عربي أميركي يرغب في تكريس حضور بيئته وتثبيت جذورها في المدينة التي تتباهى بلقب عاصمة العرب في أميركا. ويرى أبناء الجيل الذي كافح في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لتفعيل المشاركة السياسية المحلية في أوساط الجالية وانتزاع مفاتيح التمثيل من الحالات الشخصانية والأنانية التي كانت تستمد نفوذها المفترض من ولاءات عائلية تقليدية معطوفة على أسبقية في الهجرة (لتفتح عيون المهاجرين على حقيقة أننا أصبحنا في العالم الجديد وأن مستقبل أولادنا سيكون في هذه البلاد وعلينا أن نتصرف على هذا الأساس)، يرون أن في هذه الصورة علامات نضوج كثيرة تبشر بمستقبل أفضل بهمة الصبايا والشباب الذين تمكنوا في أسوأ حقبة تمر على الجالية من إثبات حضورهم وكفاءتهم ونجاحهم.
كان مؤسس «المركز الإسلامي في أميركا»، الإمام الراحل محمد جواد الشري (وهو من أبرع من عملوا على تمكين العرب الأميركيين) يقول في الثمانينيات: «من يقول إن وجوده في أميركا مؤقت وإنه سيعود إلى البلد التي هاجر منها بعد تكوين ثروة صغيرة لا يعرف أميركا أو لا يعرف البلد التي تركها». وكان مؤسس «النادي اللبناني الأميركي»، علي جواد، وهو من رواد تلك المرحلة يحرص دائماً على ترداد هذا القول في كل مقابلة أو مناسبة. في تلك الأيام شكّل ترشح المحامي جمال حمود لعضوية المجلس البلدي حدثاً غير عادي أطلقَ دينامية هائلة في الجالية وإن اتخذ بعضها إشكالاً بدائية موروثة من أجواء الانتخابات اللبنانية وعصبياتها، فيما اعتبره «وجهاء» تلك المرحلة تطاولاً في غير محله على ما لا طاقة لنا به.
تختلف الصورة كلياً هذه الأيام. فمعظم المرشحين لرئاسة البلدية والمجلس البلدي والمناصب الشاغرة عرب أميركيون من الجنسين وجلهم من الشباب والصبايا الحائزين على شهادات عالية أو المتمرسين في مهن ومواقع مرموقة. هذه صورة مفرحة تقول ببساطة إن الجالية تخلت عن مضمون كلمة «جالية»، بل صارت مجتمعاً كاملاً متكاملاً مع محيطه بثقةٍ وندية وانفتاح، وليست ذات حضور مؤقت أو على وشك «الجلاء». مجتمع قادر على إطلاق قدراته الكامنة بلا دونية أو عقدة نقص أو نزعات أقلوية.
هذا بالطبع لا يعني أننا بلغنا الكمال –والكمال لله وحده– لكن حتى في مضمار التفاعل وإثبات الحضور المؤسسي والسياسي لا يزال هناك الكثير من مجالات التطوّر والتحسن. فكما أننا كأي مجتمع آخر فينا الصالح وفينا الطالح، وكأي جسم مدني آخر، فينا المبادر وفينا القاعد (والقاعد عادةً كثير الكلام والانتقاد، قليل الفعل والعطاء، ويحترف جلد الذات)، والإنصاف يقتضي القول بأن الإيجابي فينا أكثر من السلبي، فإن مسارنا التفاعلي لا يخلو من الشوائب.
ففي ذروة الاندفاعة الانتخابية التي تعيشها ديربورن الآن، يبدو من نظرة سريعة أن التركيز العربي الأميركي ينصبّ على المناصب. إذ هناك ثلاثة مرشحين عرب أميركيين لمنصب رئاسة البلدية، و16 مرشحاً من أصل 19 لعضوية المجلس البلدي. وفي حين تتركز كل الجهود والنشاطات على المرشحين، تغيب البرامج والقضايا الحيوية التي تعني المدينة. يتصرف البعض مع الترشح وكأنه تحدٍ شخصي، ويتلمس البعض وسائل وعلاقات بدائية من أجل حفنة من الأصوات أو التبرعات، دون الانتباه إلى الكلفة اللاحقة لهذا المنحى والندوب التي يتركها في العلاقات الداخلية لمجتمعنا سواء على أساس العائلات والأقاليم بين المهاجرين من البلد نفسه، أو على أساس بلد الهجرة.
الغائب الأكبر في هذا الموسم الانتخابي هو النظام الداخلي لمدينة ديربورن (أي الدستور أو الميثاق)، والذي يتناول كل مناحي الحياة المدنية والتنظيمية في المدينة، من الاسم والحدود الرسمية إلى أبسط المعاملات الإدارية. وإن لم أكن مخطئاً لم يطرح أي مرشح عربي أميركي هذا الموضوع، ولم يرد حتى الآن في أي منشور أو إعلان أو خطاب انتخابي مع أن مراجعة وتعديل الدستور لا يحصلان إلّا كل 20 سنة، وانتخابات هذه السنة فرصة لجيل كامل لترجمة الوجود العربي الأميركي في القانون الأساسي للمدينة. وقبل أن تدب الحسرة في أحد ويعضّ على أصبع الندم، هناك متسع من الوقت لتلافي هذا الإهمال، والقيام بالجهد المطلوب للمكونات الثلاثة للمسألة.
ينص ميثاق المدينة المعمول به حالياً على أن الناخبين في الجولة التمهيدية، التي ستجري في الثالث من آب (أغسطس) المقبل لتصفية المرشحين لرئاسة ومجلس البلدية، سيصوتون أيضاً على وجوب إعادة النظر بميثاق المدينة أو لا. هذه هي المهمة الأولى، لأن التصويت بـ«لا» يعني الإبقاء على الميثاق بصيغته الحالية حتى العام 2041. أما أذا صوّت الناخبون لصالح إعادة النظر في الميثاق، فسيتعين عليهم انتخاب لجنة من تسعة أعضاء في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، لتقوم هذه اللجنة –خلال سنتين– بمراجعة الميثاق الحالي وتقديم التعديلات المقترحة أمانة سر البلدية لتطرح في استفتاء عام.
يضع هذا، على المعنيين (وفي طليعتهم المرشحون)، مسؤولية شرح المسألة للناخب العربي الأميركي وتشجيع أصحاب الكفاءات والأهلية للترشح لعضوية اللجنة. كانت المرة الأخيرة التي تشكلت فيها لجنة دستورية عام 2005، وكان العضو العربي الأميركي الوحيد فيها، عضو المجلس البلدي المرشح للاحتفاظ بمقعده، ديفيد بزي.
صحيح أن عضوية اللجنة ليست منصباً برّاقاً ولا دائماً ولا يقبل التجديد، لكن الصحيح أيضاً أن هذه العضوية فرصة مهمة جداً للإسهام في القانون الأساسي للمدينة العربية الأهم في أميركا، وأن ذلك أمر في غاية الأهمية لإعداد جيل جديد من المرشحين المؤهلين والكفوئين لمناصب إدارية وسياسية. باب الترشح للجنة سيفتح إلى 20 تموز (يوليو)، وكثيرون مؤهلون لهذه العضوية… وهنا لا بد من طرح الثغرة الثانية في هذه الدورة الانتخابية.
المرشحون العرب الأميركيون الثلاثة لمنصب رئاسة البلدية يشغلون الآن مناصب مهمة ووازنة.
رئيسة المجلس البلدي في ديربورن سوزان دباجة (بطبيعة الحال من حقها أن تترشح لأي منصب في أي وقت)، لكن يبدو أن دباجة لا ترى منصباً شاغراً لا تترشح إليه، فمنذ سنتين خاضت انتخابات قضائية فاشلة بحجة أن البلدية لا تناسبها دخلاً أو دواماً. هي رئيسة السلطة التشريعية في ديربورن، وهي سلطة مهمة يمكن تعزيزها من خلال المساهمة في تعديل القانون الأساسي للمدينة.
النائب عبدالله حمود، النجم الذي بزغ ببراعة واحتل منصبه عن جدارة في مجلس نواب ولاية ميشيغن، وكنت أتمنى شخصياً –وربما أتحدث هنا عن كثيرين غيري– أن أراه يترشح إلى منصب أوسع جغرافياً، أي على مستوى الولاية أو الكونغرس الأميركي كنائب عن ولاية ميشيغن. أما العودة إلى ديربورن برأيي فهي خطوة إلى الوراء، لأنها ستضيّق من أفق اهتماماته وستحرمنا من دوره الوطني المنشود.
أخيراً وليس آخراً، رئيس المجلس التربوي في ديربورن، حسين بري، الذي يشخصن المسائل العامة ويقدّم علاقاته الشخصية على أي شيء آخر، يتصرف وكأن له ديناً على الناس أو «حق الشفعة»، ويوحي بأنه يرى في التجبر والعناد (على أهله وناسه خصوصاً) طريقة مثلى ليحقق ما يريد.
لا شك أن لكل من هؤلاء المرشحين جمهوراً ومؤيدين، وذلك سيؤدي حتماً إلى تشتيت الصوت العربي الأميركي، أقلّه في الانتخابات التمهيدية مثلما حصل في السباق القضائي الأخير. ومع أني لا أرى في انتخاب القاضي جين هانت سوءاً، لكن هذه المرة ليس بين بقية المرشحين لرئاسة البلدية، مرشح مثل هانت في صداقته للعرب الأميركيين ورغبته في خدمتهم.
Leave a Reply