محمد العزير
دخل يوم الثلاثاء، الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، التاريخ العربي الأميركي من أوسع أبوابه، ولولا خشية المبالغة لجاز القول إن هذا اليوم الانتخابي المشهود فتح للتاريخ العربي الأميركي بوابة قزّمت كل الثغرات والانكفاءات والتراجعات التي أصابت الجسم السياسي العربي الأميركي منذ نكسة الهجمات الإرهابية الموصوفة على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر المشؤوم من أيلول (سبتمبر) عام 2001، والتي قذفت مجتمعاً حيوياً متفاعلاً ومتنوعاً ومنفتحاً إلى أتون الردة ليقع فريسة مشتهاة بين فكي المؤسسات الدينية «القروسطية» التي انتعشت بشراهة غريبة وتوغلت في بدائياتها بشبق غيبي لم يجارِها فيه سوى دهاقنة الدين وسماسرة المذاهب والطوائف الغارقين في الفتنة إلى رقابهم الغليظة الحاملة رؤوساً تعج بالضغائن والمكائد والدسائس، إلا من رحم ربي، في الوطن الأم المسكون بالبؤس.
النجاح الانتخابي العربي الأميركي الذي شهدته ديربورن وديربورن هايتس وهامترامك ليس حدثاً عابراً ولن يكون سحابة صيف؛ هو بلا شك، المدماك الأساس في صرح عربي أميركي جديد وواعد من شأنه أن يغير قواعد العمل المؤسسي في مجتمعنا وينتج نخباً جديدة من الشباب الذين لا يمكن تجاوز دورهم المميز وحضورهم الباهر خلال اليوم الانتخابي المثير.
لقد أثبت الشباب العربي الأميركي حضوره القوي ليس فقط من حيث العدد بل أساساً من حيث الجوهر أيضاً. إذ نجحت هذه الشريحة من أبناء المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث في إقامة حد مسلكي وميداني واضح بينها وبين ما تبقى من سياقين تجاوزهما الزمن في العمل العام، خصوصاً في بيئة إثنية مميزة تمكنت في الوطن الجديد من تحقيق ما فشلت فيه نخب وشخصيات وتيارات في الوطن الأم، وهو التوصل إلى أسس مشتركة لهوية عربية جامعة لا تقوم على عقيدة متزمتة أو فرضيات من مخلفات التجربة القومية الأوروبية «الدموية»، وإنما على قاعدة انتماء إنساني موصول تلقائياً بمصالح وأهداف مشتركة لا خلاف عليها إلا لدى من يصر على الخلاف.
كان المشهد الانتخابي واضحاً وسهل القراءة بتياراته الثلاثة المميزة.
من المفيد التذكير هنا بجغرافية وتاريخية المكان الذي شهد الحدث وخصوصاً مدينة ديربورن، دون الانتقاص من أهمية المدينتين الأخريين. لكن لديربورن خصوصيات متعددة الوجوه تجعل من نتائج الانتخابات فيها أكثر تعبيراً عن المنحى الجديد الذي بدأ مع فتح صناديق الاقتراع في الانتخابات التمهيدية في آب (أغسطس) الماضي، ولن ينتهي في المدى المنظور. فديربورن سابع مدينة من حيث عدد السكان (110 آلاف نسمة) والرابعة من حيث الترتيب الاقتصادي في ولاية ميشيغن، كانت مدينة تتباهى بعنصريتها الفاقعة التي ترعرعت في أحضان مُلهم أدولف هتلر وصديقه هنري فورد أحد أساطنة الصناعة والمال في أميركا وترجمها بفظاظة رئيس البلدية الأسبق الذي لا يزال ورثته يحتلون موقعاً وازناً في الشأن العام حتى يومنا هذا، الراحل أورفيل هابرد، الذي حيّر مصير تمثاله رئيس البلدية الحالي جاك أورايلي، إلى أن اقتنعت أسرته باسترداد التمثال كملكية شخصية.
هذه الـ«ديربورن» كانت حاضرة في الانتخابات البلدية، لتؤكد أنها لم تتقاعد ولم تنسحب، وقد تبلورت بحصول المرشح الأبيض غاري وورنتشاك على ما يقارب ثلاثة أضعاف الأصوات التي حصل عليها في جولة أغسطس التمهيدية، فقط لأنه غير عربي، وليس «عبدولاً»، بينما نجح المرشح العربي الأميركي عبدالله حمود بزيادة نسبة أصواته بأقل من خمسين بالمئة فقط (وهذه نسبة طبيعية للفارق بين الأصوات في الجولتين التمهيدية والنهائية).
كذلك، تمثل غير العرب في المدينة بثلاثة مقاعد من أصل سبعة في المجلس البلدي وتراوحت أصوات كل من المرشحين الفائزين حول العشرة آلاف صوت وهو رقم لم يتجاوزه سوى مايكل سرعيني وكمال الصوافي. وهذا يعني أن كتلة صلبة تفوق العشرة آلاف ناخب تصر على إثبات وجودها، وقد ترجمت ذلك من خلال إيصال سبعة مرشحين من غير العرب إلى لجنة مراجعة القانون الأساسي للمدينة والتي ستتولى تعديل الميثاق الداخلي والقوانين المحلية للمدينة.
السياق الثاني، الذي تجاوزه الحضور الشبابي المنظم والهادئ، هو ما تبقى من أساليب عمل قديمة بين العرب الأميركيين تقوم على ثنائية تنتمي إلى مفهوم العمل الانتخابي والخدمة العامة في الوطن الأم.
الشق الأول يتوسل بدائية الولاءات العائلية والقروية والجهوية والقطرية والمذهبية كحوافز انتخابية بديلة للكفاءة والنزاهة، وتنطلق من مبدأ إقصاء الآخر، فلم تسلم بعض الأقلام الانتخابية ولم تبرأ بعض الحملات من الدعوة إلى التصويت لشخص واحد فقط لأنه «قرابتنا» أو «ابن–بنت ضيعتنا» أو «من بلدنا» أو «من ملّتنا». هذا أمر يختلف عن السعادة التلقائية والمشروعة بتفوق ونجاح قريب أو قرين أو صديق في عمل عام. هذا نوع من البدائية التي تتحملها انتخابات بلا ديمقراطية حقيقية كما يحصل في أقطار عربية تقيم انتخابات بلا روح ولا صلاحيات.
أما الشق الثاني فيتمثل في الربط القسري بين الثراء (مهما كان مصدر المال) وبين التنطح للشأن العام بعشوائية ونرجسية وتهور تجعل من العملية الانتخابية، في حالات كهذه، مسابقة صاخبة في امتحان لا علاقة له بالسياسة ولا التمثيل ولا العمل العام، بل يقوم على الشخصنة والاستعداء وإثارة الشائعات في لعبة مضرّة بطلها واحد غالباً ما ينتهي خاسراً ويستخدم خسارته مبرراً لمزيد من الشخصنة والاستعداء والشائعات.
قال العرب الأميركيون كلمتهم بوضوح في صناديق الاقتراع، وحققوا في يوم واحد دفعة من الإنجازات التي كانت تعتبر من أشباه المستحيلات في العقدين الماضيين. ولمن يشك في ذلك، أن يفيق على حقيقة لا جدال فيها: رئيس بلدية ديربورن عبدالله حمود، رئيس المجلس البلدي في ديربورن مايكل سرعيني، رئيس بلدية ديربورن هايتس بيل بزي، ورئيس بلدية هامترامك عامر غالب، فضلاً عن مناصب ومواقع كثيرة أحرزها العرب الأميركيون في عموم ولاية ميشيغن.
هل ينبغي ذلك إعلان الانتصار وإنجاز المهمة؟ لا بأس بذلك. بل لابد من شيء من الاحتفال والفرح في جو يلفه الحزن على الوطن الأم، لكن لا بد من الاستعداد لليوم التالي؛ يوم استلام المناصب والبدء بالعمل. المنتخبون والمنتخبات سيكونون تحت المجهر ليس في المدن التي نجحوا فيها فحسب، بل سيكونون في موضع المتابعة على المستوى الوطني العام بفضل حماقات دونالد ترامب وعنصرية اليمين المتزمت.
لن تتأخر معلّقات «حكم الشريعة» ولن تجفّ أقلام التحريض تحت مسمى محاربة الإرهاب. سيحول الإعلام الأميركي أية همسة إلى صراخ مدوٍ، وستتعرض كل كلمة أو موقف أو قرار للتشريح والفحص والتمحيص الدقيق بحثاً عن ثغرة أو مسرب تتسلل منه الفبركات العنصرية لتحيك على النول الفاشي دعايات أضحت معروفة وموثقة.
اما داخل المجتمع العربي الأميركي نفسه، فسيعيد من اعتبر نفسه خاسراً في مضمار النفوذ والتأثير حساباته وستقام تحالفات وتفاهمات مؤسسية وشخصية تحت الطاولة وفوقها من أجل استعادة مجد لم يتعب الخاسر في بنائه بل انتهز فرصة نكسة خارجية المصدر ليتعملق ويتسلح بالألقاب والتفخيم والولائم واستيراد مشاكل الوطن الأم للمتاجرة بها.
هذه فئة ليست بسيطة وليست ساذجة وتعرف أن التغيير آت مع جيل شاب، متعلم مثقف ومتسلح بالوعي. هذا وحده كفيل بتحويل مؤسسات وشخصيات وازنة إلى مطبات أو أحصنة طروادة لأن حسابات الربح والخسارة لديها، ليست المصلحة العامة وإنما إبقاء الحال على حاله. لكن التاريخ والمنطق وما جرى يوم الثلاثاء الماضي لهم قول آخر، وهو أن الأمل ينتصر لأن المستقبل أمام الناس وليس خلفهم.
Leave a Reply