لم تمضٍ إلا ساعات على صدور قرار المحكمة العليا فـي الولايات المتحدة الذي حكم لصالح امرأة مسلمة رفضت شركة الملابس العملاقة «أبركرومبي وفـيتش» توظيفها لأنها ترتدي الحجاب، حتى امتلأت الشبكة العنكبوتية العالمية بأعداد لا تحصى من المشاركات التي أعلنت الحداد وأقامت مجالس العزاء والترحم والتحسر على خيبة آمالهم بانتصار «الشريعة الاسلامية». حملة السعار المجنون حول ما يسمى بقانون «الشريعة»، يقودها المدونون المتعصبون الجهلة والسياسيون المتطرفون ضد المسلمين، هي مجرد أضغاث أحلام واختراع لعدو وهمي ليحل مكان الشيوعية الملحِدة التي انتهت بزوال الاتحاد السوفـياتي، فضلاً عن أنه توجه غير عقلاني ومتهور وخطير.
ان الحق المكفول للمواطنين الأميركيين، من كافة الملل والنحل، حول عدم وجوب التخيير بين وظيفتهم وبين إيمانهم الديني، ليس تطبيقاً للشريعة الاسلامية المزعومة، بل هو انتصار وتأكيد للعدالة ولقانون الحقوق المدنية الذي ينبع من التعديل الأول للدستور الأميركي.
ثم انه خارج نطاق الثيوقراطية الإسلامية، التي تعتبر الشريعة الإطار الأخلاقي التي يستخلص المسلمون منها تشريعاتهم كأسلوب حياة. فالإسلام ليس فريداً من حيث وجود قواعد دينية لديه تحكم المعاملات والعبادات والسلوكيات البشرية. على سبيل المثال لا الحصر، إن لدى المسيحية قانوناً فسيفسائياً، من الوصايا العشر وتعاليم السيِّد المسيح (ع) التي تعرف باسم «العهد الجديد». اليهودية أيضاً لديها ما يسمى «الهلاخا» وهي مجموعة قوانين دينية يهودية. كذلك الأديان غير السماوية كالهندوسية مثلاً لديها «مانو سميرتي»، وهو الكتاب الذي يحكم مجتمعها.
اما فـي الولايات المتحدة، فالدستور هو القانون الأعلى فـي البلاد لأنه يحمي حرية ممارسة الدين فـي نفس الوقت الذي يحظر فيه إنشاء الدين وتبنيه من قبل الحكومة.
المخاوف السائدة من الشريعة الإسلامية فـي أميركا هي مخاوف هلوسة، لا تستند الى أي معطى علمي او واقعي الا فـي مخيلة المجانين الباحثين عن الشهرة والمال مثل تيري جونز وباميلا غيلر وروبرت سبنسر وامثالهم من المتعصبين. لم يبلغ عن حادثة واحدة قامت بها محكمة أو جهة حكومية بتطبيق الشريعة فـي مكان ما لتحل مكان قوانيننا العلمانية القائمة والتي ينص عليها دستور البلاد. بل ان الأماكن الدينية للمسلمين هي امتداد للحريات التي يمنحها لها ولكل الجماعات الدينية فـي هذا البلد التعديل الدستوري الأول، ولا سيما المسيحية منها التي تحصل على المراعاة المناسبة من قبل الجهات الحكومية. فعلى سبيل المثال، أيضاً فإن يوم ٢٥ كانون الأول (ديسمبر) هو يوم عطلة فـدرالية مع أنه يحمل مدلولاً دينياً كبيراً وهو مناسبة ولادة سيدنا المسيح عليه السلام.
وعلى الرغم من أن الأكاذيب والأوهام والتلفـيقات مهما تغلغلت فـي وسائل الإعلام فإنها لا تغير من حقيقة أن الحتمية تصب فـي صالح حرية الإنسان ياختيار معتقده الديني ولن تجدي القصص الملفقة نفعاً فـي أن تكون المحرك وراء الخوف من الشريعة الإسلامية. وفـي هذا المجال، لعبت المواقع المحافظة والمتهورة على وتر مخاوف الأميركيين وأقنعت جمهورها أن هناك جيوباً خلفـية واحصنة طروادة للشريعة الإسلامية فـي جميع أنحاء البلاد، حيث الإدعاء بأن المسلمين يعيشون فوق القانون ويبنون معسكرات تدريب للأصوليين!!.
السياسيون والشخصيات الرئيسية ووسائل الإعلام الشعبية تقوم بترويج هذه الخرافات من حيث تدري او لا تدري. فخلال عام ٢٠١٠ ادَّعَتْ شارون أنغيل، نجمة «حزب الشاي» والتي ترشحت لمجلس الشيوخ الاميركي كـ«جمهورية» فـي ولاية نيفادا، أن ديربورن تخضع لحكم الشريعة الاسلامي، وليس للدستور الأميركي. اما المعلقون فـي شبكة «فوكس نيوز» اليمينية وأكثرهم من «حزب الشاي»، بما فـي ذلك الإعلاميان بيل أوريلي وشون هانيتي وسابقاً غلين باك، فقد استهلكوا آلاف الساعات من البث التلفزيوني محذرين من أن الشريعة آتية لا ريب فـيها إلى أميركا.
المنظمون العقائديون المتحجرون والوطنيون المزيفون الذين يستفـيدون من نشر المخاوف والهلع ومن تجارة التحريض، هم القوة الدافعة وراء خلق الانطباع بأن الشريعة قادمة لتدمير أميركا. وهذه المجموعات عملت على تمرير قوانين مضحكة تحظر الشريعة الإسلامية فـي ثماني ولايات، وهي قرارات بمثابة لزوم ما لا يلزم. كما ان حظر الشريعة الإسلامية فـي المحاكم الأميركية والجهات الحكومية تم اقتراحه فـي ٣٤ ولاية منذ عام ٢٠١٠، وكثير من هذه الولايات تعاني من البطالة وتدهور البنية التحتية وتدني مستوى المدارس فـيها والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية المستفحلة الأخرى. لكن المشرعين فـي هذه الولايات المتحمسة للحماية من خطر موهوم، قد وجدوا الوقت الكافـي لحظر اعتماد القانون الديني الاسلامي غير المطروح أساساً من قبل الحكومة، على الرغم من ان الدستور الأميركي واضح وضوح الشمس ومنذ ما قبل ٢٢٧ عاماً أنه لا يمكن للحكومة الاميركية ان تتبنى عقيدة دينية معينة .
هذه التدابير والإجراءات «الاحترازية» غير الضرورية تهدف الى نشر الخوف من الشريعة الإسلامية، بما فـي ذلك حظرها فـي الولايات، لا تحمل الا دور إشعال نيران التعصب وتجلب الضرر والمشاكل العنصرية للمجتمع الأميركي المسلم الذي يعاني أساساً من آثار الكراهية والعداء. وإذا كانت الشريعة تشكل خطراً على الديمقراطية الدستورية، واراد المسلمون نشر الشريعة، فإنهم سوف يشكلون تهديداً لهذا البلد. وعندما يتم رصد مجموعة من الناس بألوان عريضة ممجوجة ومكروهة، فإن النتائج غالباً ما تكون غير سارة.
خلال الأشهر القليلة الماضية، تعرض ثلاثة من الأميركيين المسلمين الشباب، الذين كانوا مواطنين مثاليين، للإعدام بدمٍ بارد فـي شابل هيل فـي ولاية كارولينا الشمالية. وقد أحرق مسجد برمَّته فـي هيوستن، بولاية تكساس كما تجمع مئات المحتجين المعادين للمسلمين مع بنادقهم أمام مسجد فـي فـينيكس، ولاية أريزونا. حتى فـي جنوب شرقي ميشيغن، حيث يجب أن يكون العدد الكبير من المسلمين كافـياً لفضح ودحض الأساطير والخرافات حول الجالية الاسلامية ومشاريع الشريعة الوهمية، هوجم رجل أمام عائلته فـي متجر كروغر وفـي مدينة الثقل العربي والإسلامي فـي ديربورن، كما أعتُديَ على عاملين اثنين فـي متجر «سفن ايلفـين» بسبب دينهم الإسلامي.
مع ذلك، يجب تطمين مواطنينا الأميركيين بأن المسلمين لا يريدون فرض الشريعة الاسلامية على أحد. ولكن من المفارقات، أن أولئك الذين نصبوا أنفسهم مسيحيين ويتحمسون للتحذير من الشريعة الاسلامية هم الذين يحاولون فرض الطرق الدينية والعقائد المسيحية على الرأي العام الأميركي من خلال قوانين «الحرية الدينية» التي من شأنها أن تفتح الباب أمام التمييز والتفرقة باسم الدين. ويتحمل الأصوليون الدينيون التابعون للحزب الجمهوري المسؤولية كاملة عن الدرك والمنزلة الخطيرة التي يجرون اليها اميركا عن طريق إمعانهم فـي حرمان المرأة من الرعاية الصحية الإنجابية ورفض التدابير المتخذة لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، كل ذلك يجري باسم المسيحية.
إنَّ انتصار الحجاب فـي المحكمة العليا للولايات المتحدة الاميركية هو انتصار للعدالة البشرية اولاً قبل الدينية. وانتصار آخر لأميركا المتحدِة ولدستورها العظيم، وتأكيد على ان هذه البلاد ستبقى عصية على المتطرفـين والدواعش من المسيحيين والمسلمين واليهود وغيرهم على السواء.
Leave a Reply