نبيل هيثم – «صدى الوطن»
ليست ظاهرة فريدة أن تشهد المراحل التفاوضية المحورية سباقاً بين الميدان والديبلوماسية. تلك ظاهرة تفرضها دائماً رغبة هذا الطرف أو ذاك فـي الجلوس إلى طاولة المفاوضات متسلحاً بأوراق قوة، وهو ما تشهد عليه كل التجارب التاريخية فـي التاريخين الحديث والقديم.
![]() |
جنديان سوريان يتعانقان بعد فكّ الحصار عن مطار «كويرس» العسكري في ريف حلب الشرقي. |
ولكن هذا السباق يتخذ ابعاداً أكثر أهمية فـي سوريا. ففـي ظل القناعة الراسخة لدى مختلف القوى الإقليمية والدولية بأن المخاض السوري وصل الى مرحلة بحيث بات فـي الصراع الدامي أمام مفصل خطير: إمّا الاستفادة من اندفاعة فـيينا التفاوضية بما يقود الى حل سياسي فـي غضون أسابيع… وإما انفجار الموقف العسكري بشكل غير مسبوق بما يقود الى تحوّل الصراع الدائر بالوكالة بين القوى الكبرى الى صدام مباشر لا تحمد عقباه.
هكذا يمكن وصف المرحلة الحالية فـي سوريا فـي ظل تكثف الاتصالات الديبلوماسية لتفعيل لقاءات فـيينا، التي شكلت خرقاً فـي النفق السياسي.
ولا بد من التذكير، فـي هذا الإطار، الى ان هذا الخرق لم يكن ليتم لولا «عاصفة السوخوي» الروسية، التي فجرّت أولى صواريخها السياسية جدار التعنت الذي ابدته الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، وتفجير ركيزته الأساس، المتمثلة فـي المطالب غير المنطقية التي طرحها السعوديون بشكل واضح، على لسان وزير خارجيتهم عادل الجبير بشأن عملية سياسية من دون وجود الرئيس بشار الأسد.
وفـيما كانت «عاصفة السوخوي» تحقق فـي مجال مكافحة الإرهاب خلال شهر ما لم تحققه طائرات التحالف الأميركي خلال عام، بدا الكل مقتنعاً بضرورة النزول عن شجرة المطالب الوهمية، فصار الانتقال التدريجي من المطالبة بإسقاط نظام الأسد، الى القبول ببقاء النظام السوري دون رئيسه، الى الإقرار بدور الرئيس فـي المرحلة الانتقالية، وربما لاحقاً الإقرار بـ«حقه» كأي مواطن سوري فـي الترشح للانتخابات الرئاسية التي يفترض أن تشكل العنصر الأساس فـي المرحلة الانتقالية المقترحة من قبل الروس.
ويبدو أن الروس يدركون جيداً ان ترتيب الأوضاع الميدانية، عبر تحقيق إنجازات عسكرية نوعية للجيش السوري، ستشكل ورقة مهمة لجولة فـيينا الثانية، فـي ظل عجز القوى الأخرى المعادية عن اي خرق مهم على هذه الجبهة أو تلك، بما يسمح لها بفرض أجندتها على اللقاء الدولي، أو ربما على المشهد السوري العام، كما فعلت بعد سيطرة «جبهة النصرة»، وبمؤازرة تركية-سعودية، وغطاء أميركي، على إدلب.
من هنا، تكمن الأهمية الإستراتيجية للانتصار الذي حققه الجيش السوري خلال الأسبوع الماضي، حين تمكن من فك الحصار عن مطار كويرس العسكري المحاصر من قبل تنظيم «داعش» منذ نحو عامين، والذي كان قبلها عرضة لهجمات «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» منذ العام 2012.
ولا بد هنا من القول ان معركة كويرس تشكل، بكل المعايير العسكرية، انتصاراً اسطورياً للجيش السوري -ومن خلفه الجيش الروسي والحرس الثوري الإيراني و«حزب الله»- من شأنه ان يعدّل خريطة التوازنات فـي الشمال السوري الملتهب.
ويحمل انتصار كويرس أكثر من دلالة عسكرية وسياسية، فالمعركة فـي سوريا هي معركة مطارات بالدرجة الأولى، ما يعني، بحسب ما يجمع عليه الخبراء العسكريون، ان السيطرة على مطار تؤمن قدرات أفضل لسلاح الجوّ وللقوات على الأرض من أجل التقدّم الميداني على المحور المراد التقدم فـيه. وهي معطيات تؤكدها تسريبات عسكرية بأن السيطرة على كويرس ستمكن الجيش الروسي من إقامة قاعدة جديدة له فـي ريف حلب.
علاوة على ذلك، فإن انتصار كويرس جاء ليقطع الطريق أمام حملة التشويش الغربية بشأن أداء «عاصفة السوخوي» وليسقط الرهان على محاولات استنزاف الحملة العسكرية الروسية، سواء فـي الميدان السوري، أو فـي أجواء سيناء، حيث ظن كثيرون ان إسقاط «داعش» -ومعه «القاعدة» على الأرجح- للطائرة الروسية قد يدفع الكرملين الى إعادة النظر فـي خياراته السورية (بالرغم من اداركهم ان محاولات مماثلة جرت خلال حرب الشيشان ولم تلوِ ذراع الرئيس فلاديمير بوتين ومنها على سبيل المثال حادثتا مسرح موسكو ومدرسة بيسلان). ولعل الملفت للانتباه هنا ان انتصار كويرس ترافق مع تأكيد روسي، على لسان رئيس ديوان الرئاسة سيرغي ايفانوف، بأن الحملة الروسية فـي سوريا مستمرة الى ان يتمكن الجيش الروسي من استعادة السيطرة ميدانياً.
ولكن الاهم، أن تحرير مطار كويرس يشكل خطوة استراتيجية مباشرة لتحركات الجيش السوري لتطهير المناطق المجاورة وتهديد طرق امداد «داعش» ووضعه تحت الكماشة انطلاقا لتحرير محافظة حلب بالكامل، وهو ما يمكن وصفه بـ«أم المعارك» ليس بالنسبة للجيش السوري فحسب، وانما للمعركة الكبرى فـي سوريا عامة، خصوصاً أن الجبهة الحلبية ستشكل اختباراً لكل القوى، التي ستدفع بثقلها فـي المعركة، بدءاً من روسيا، مروراً بالسعودية وقطر وتركيا، وبطبيعة الحال الولايات المتحدة، بعد عجز المجموعات المسلحة عن تحقيق اختراقات فـي جبهات أخرى، ولا سيما فـي جبهة درعا بعد فشل ما يسمى بـ«عاصفة الجنوب» لمرّات عدة.
كذلك، فإن انتصار كويرس، الذي أتى عشية لقاء فـيينا الثاني، أظهر ان الجيش السوري ما زال قادراً على خوض اشد المعارك تعقيداً ضد تنظيم «داعش» الإرهابي على وجه الخصوص، ما يجعل الروس قادرين فـي الجلوس على طاولة فـيينا، وفـي جعبتهم إنجازٌ نوعي يؤكد الطرح الروسي الذي يقول إن الجيش السوري هو القوة الوحيدة، الى جانب «وحدات حماية الشعب» الكردية، القادرة على محاربة الإرهاب فـي سوريا.
وهنا تتضح ملامح الإستراتيجية الروسية، فانتصار كويرس يجعل المفاوضين الروس فـي موضع قوة حين يفرضون رؤيتهم السياسية (المرحلة الانتقالية للتسوية السورية) والعسكرية (فرز المجموعات المسلحة بين معتدلة وإرهابية بشكل محدد)، بما يضمن فتح جبهات أخرى، أهمها جبهة ريف دمشق، التي بدأ التمهيد لها بشكل تدريجي خلال الأيام الماضية، حيث بدأت عمليات الجيش السوري تدخل منعطفاً جديداً بعد تأمين الطريق الى دوما للمرة الأولى منذ ثلاثة أعوام، وبدء الهجوم على مطار المرج والسيطرة على طريق حرستا.
ومن المؤكد، عسكرياً، ان إسقاط الحصار عن كويرس سيحيي العمليات المؤجلة نحو بلدتي نبل والزهراء المحاصرتين، ويصعّد من هجمات الجيش السوري نحو معاقل «داعش» فـي حلب (الباب ومنبج)، وبالتالي تأمين تواصل بين المناطق الكردية المعزولة، وهو ما يسقط الرهانات التركية، التي تسعى لتحويل هذه الرقعة الجغرافـية الى «منطقة آمنة». ولعل هذا ما يفسر محاولات اردوغان التشويش على فـيينا السوري ومعركة كويرس، حين صرّح بوضوح ان «شركاء تركيا» باتوا اقرب الى فكرة «المنطقة الآمنة» التي يريدها خالية من «داعش» والاكراد… قبل أن تأتيه صفعة ديبلوماسية من واشنطن، عبر موقف صريح أكد ألا اتفاق على هذه المسألة.
يبدو واضحاً إذن أن المخاض السوري قد بلغ الذورة فـي ظل السباق بين الميدان والديبلوماسية، ومع بدء العد العكسي للانتخابات الاميركية. وها هي روسيا باتت قادرة على ضبط الصراع السوري وفق ايقاعها: فتح كل الجبهات الممكنة عسكرياً… وطرح حلول للازمة المستمرة سياسياً.
مطار كويرس .. بطاقة تعريف
يقع مطار كويرس شرق مدينة حلب بمسافة تقدر بحوالي 40 كيلومتراً. وتبلغ مساحته حوالي 300 هكتار وهو ينقسم إلى قسمين أساسيين:
القسم الأول، يضم الكلية الجوية وهي مختصة بتدريب وتخريج الطلاب الضباط من ملاحين وفنيين وطيارين.
ويحصل المتدرب على رتبة ملازم عند تخرجه. وبالنسبة للطائرات الموجودة داخله فهي تقتصر على المروحيات وطائرات تدريب معطلة عن العمل منذ فرض الحصار حوله.
أما القسم الثاني، فـيضم الفوج 111 وهو مكلف بحماية الكلية الجوية وتوجد بداخله كتائب دفاع جوي عدة.
وتعرض المطار لهجمات عدة من قبل «الجيش الحر» ولاحقاً «جبهة النصرة»، قبل أن يسيطر تنظيم «داعش» على محيطه. وهو محاصر منذ ثلاث سنوات ولا يقلع منه أي نوع من الطائرات منذ حصاره.
ويقدر عدد حامية المطار بـ 1000 عنصر بين ضابط وضابط صف وجندي. وقد نجح الجيش السوري، بقيادة العقيد سهيل الحسن من فك الحصار عنه انطلاقاً من مدينة السفـيرة التي تبعد حوالي الـ25 كيلومتراً، حيث سيطر بداية على قرى عدة بدعم من سلاح الجو السوري والروسي، فـيما تواصل الحملة زحفها الى القرى والبلديات المحيطة لتأمين المطار وتحويله الى رأس حربة هجومي فـي الحملة المتواصلة لتحرير حلب.
افكار روسية لـ«فيينا السوري»
تزامناً مع انتصار كويرس كانت الديبلوماسية الروسية تسرّب وثيقة، قالت انها افكار ستطرح على لقاء فـيينا الثاني، وتشكل عصارة الاقتراح الروسي لحل الازمة فـي سوريا، وهي تتضمن النقاط التالية:
1- تصنيف «داعش» كمنظّمة إرهابيّة من قبل مجلس الأمن الدولي.
2- الاتفاق على قائمة إضافـيّة من المجموعات الإرهابيّة.
3 – تبنِّي قرار مجلس الأمن لدعم الجهود ضدّ «داعش»، وتوفـير آلية بهذا المجال.
4- تجفـيف منابع تمويل «داعش» وفقاً لقرار مجلس الامن الرقم 2199، ووقف تجارة النفط غير الشرعية مع «داعش».
5 – استبعاد تنظيم «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى من اتّفاق وقف إطلاق النار.
6- إطلاق عمليّة سياسيّة تحت رعاية المبعوث الأممي إلى سوريا على أساس بيان «جنيف 1» (30 حزيران 2012)، بحيث يتم الاتفاق على تشكيل وفد المعارضة السورية مسبقاً على أساس الأهداف المشتركة لمنع وصول الإرهابيين إلى السلطة فـي سوريا، وللحفاظ على السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لسوريا.
7- الآلية المقترحة للعملية السياسية تتضمن الآتي:
أ – إطلاق عملية إصلاح دستوري (18 شهراً).
ب – تشكيل لجنة دستورية تراعي كافة أطياف المجتمع السوري، بما فـي ذلك المعارضة الداخلية والخارجية، ويتم الاتفاق على مرشح لرئاستها مقبول من قبل جميع المشاركين.
ج – يجري استفتاء شعبي على مشروع الدستور. وبعد الموافقة عليه، تُنظّم انتخابات رئاسية مبكرة.
د – إرجاء الانتخابات البرلمانية المقرّرة فـي ربيع العام 2016، على أن تجري فـي ضوء الإصلاح الدستوري، بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، على أساس الدستور الجديد.
هـ – تشكيل الحكومة السورية على أساس حزب/كتلة انتخابية، مع ضمان أن يسيطر على الحكومة من يحصل على أعلى نسبة أصوات. وسيكون الرئيس المنتخب شعبياً القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومسؤولا عن السياسة الخارجية.
Leave a Reply