عباس الحاج أحمد
في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الدكتور علي الوردي، وفي ظل الانقاسامات العمودية والمشاكل البنيوية التي تعاني منها المجتمعات العربية، سواء هنا في الاغتراب أو في الأوطان الأم، تبرز حاجتنا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة فهم عالم الاجتماع والمفكر العراقي والتعمّق بإرثه التجديدي الذي نحن بأمس الحاجة إليه لبناء فكر نهضوي جديد يقوم على الاعتراف بتعددية الآراء ووجهات النظر، ويواكب التطور المستمر للمجتمع الإنساني.
يصنَّف الوردي كأحد كبار المفكرين التنويريين المؤثرين في الأجيال الجديدة، لما يمتاز به من عمق ودقة في الطرح، وبساطة في الأسلوب، وجرأة في تبني الأفكار والقيم المتحررة بعيداً عن التحجر الفكري.
يعتبر أن قواعد علم الاجتماع تُشيّد على أرض الواقع، وليس بمعزل عن الناس، وأن الأخلاق ما هي إلا نتاج للظروف الاجتماعية، بل يرى أن التصور المثالي الأفلاطوني للمفاهيم والظواهر خاطئ من حيث المبدأ، لأن التاريخ الإنساني لا يسير على أساس التفكير المنطقي، بل وفق طبيعة وسلوكيات الإنسان من نزعات وعصبيات.
تميّز الوردي بتحليل تناقضات الشخصية العراقية تبعاً للظروف المعيشية والطبيعة الجغرافية الممتزجة بين الحياة البدوية وقيم الحضارة. غير أن تحليله الذي استند إلى نهج علمي واضح، جعله يصلح أيضاً للتطبيق في سائر بلدان المنطقة، مرسياً بذلك نهجاً فكرياً جديداً لبناء عقل حواري عربي ينسجم مع الاختلاف والتعدد.
هو عالم اجتماع عراقي، ولد سنة 1913 في بغداد في مدينة الكاظمية. أستاذ ومؤرخ عُرف باعتداله وموضوعيته وهو من رواد العلمانية في العراق. ترك مقاعد الدراسة ليعمل في محل عطارة عام 1924. ولكنه طرد من عمله بسبب انشغاله بقراءة الكتب والمجلات. بعد ذلك، فتح دكاناً صغيراً وأداره بنفسه، إلا أنه عاد إلى المدرسة، ليصبح فيما بعد معلماً وقد أثبت جدارته بنيل المرتبة الأولى في امتحانات الثانوية بالعراق فأُرسل ببعثة دراسية إلى «الجامعة الأميركية في بيروت» ثم إلى «جامعة تكساس» حيث نال الماجستير عام 1948، وبعدها الدكتوراه عام 1950.
للدكتور الوردي ثمانية عشر كتاباً ومئات البحوث والمقالات. تُدرك أثناء قراءتها محاولاته الحثيثة لتشجيع عقول الأجيال الجديدة على التمرد على حالة التقوقع الفكري، والتمسك بدلاً منها بجدلية الأفكار العلمية المعاصرة، مبرزاً الفرق ما بين تفكير القرن العاشر وتفكير القرن العشرين.
في كتابه «وعاظ السلاطين» يعتبر الوردي منطق الوعظ الأفلاطوني هو منطق المُترفين، وأن التاريخ لا يسير على أساس التفكير المنطقي بل على أساس طبيعة الإنسان ونزعاته. وأما الأخلاق فما هي إلا نتاج للظروف الاجتماعية.
من خلال كتابيه «خوارق اللاشعور» و«الأحلام بين العلم والعقيدة» يأخذنا الوردي عبر التحليلات النفسية إلى أعماق السلوك البشري. أما كتاب «مهزلة العقل البشري» فيؤطر البحث الاجتماعي لفهم طبيعة المدنية، منطق المتعصبين، عيب المدينة الفاضلة، أنواع التنازع وأسبابه، القوقعة البشرية، التنازع والتعاون، التاريخ والتدافع الاجتماعي، السفسطة، قضية علي وعمر وقضايا أخرى.
عبر هذه المؤلفات يطرح الوردي فكراً جديداً قائماً على تقبل تعددية الأراء ووجهات النظر ومحاكاة التطور المستمر للمجتمعات.
في كتابه «مهزلة العقل البشري» يقول الوردي: «إن زمن السلاطين قد ولى وحل محله زمان الشعوب، وقد آن الأوان لكي نُحدث إنقلاباً في أسلوب تفكيرنا. فليس من الجدير بنا ونحن نعيش في القرن العشرين أن نفكر على نمط ما كان يفكر به أسلافنا في القرون المظلمة. إن الزمان الجديد يقدم لنا انذاراً، وعلينا أن نصغي إلى إنذاره قبل فوات الأوان…».
يقول الوردي الذي فارق الحياة عن عمر ناهز 81 عاماً في يوليو 1995، إن الرأي الجديد هو في العادة رأي غريب لم تألفه النفوس بعد. وما دام هذا الرأي غير خاضع للقيم التقليدية السائدة في المجتمع، فهو كفر أو زندقة. أما عندما يعتاد عليه الناس ويصبح مألوفاً وتقليداً فيمسي المخالفون له زنادقة وكفاراً.
يميّز الوردي بين المتعلم والمثقف. فيقول عن جمهور المتعلمين «إننا طالما رأيناهم يسخرون من فكرة في هذا اليوم ثم يقدسونها غداً فإذا سألناهم عن السبب قالوا إنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة ثم وجدوها أخيراً».
يعتبر الوردي أن المثقفين قليلون بينما المتعلمون كثر وهم يتميزون بالغرور ويعملون بإطار فكري غير ناجح لأن التعصب يحيطه إحاطة تامة وشاملة بما يعتبرونه حقائق.
إن عملية بناء العقل الحواري التعددي تتناسب تماماً مع عملية بناء المثقف، بتعريف الوردي، وهي عملية تمتاز بالمرونة في الرأي والاستعداد لتلقي الأفكار الجديدة والتأمل فيها والتقصي عن وجه الصواب منها.
يقول: «إني حين أقرأ كتبي التي صدرت سابقاً أجدها مليئة بالأخطاء. فإني قد كتبتها في ظروف معينة وتحت تأثير معلومات كنت أعتقد بصحتها في حينه. ثم تغيرت الظروف أو تغيرت المعلومات، وأدركت أن ما كتبته بالأمس لا يصلح اليوم، كما أن ما أكتبه اليوم قد لا يصلح غداً».
العقل الحواري يتبع المنهج العلمي، ومن شرائطه الدقيقة أن يكون صاحبه مشككاً حائراً قبل أن يبدأ بأي بحث. أما أن يدعي النظرة الموضوعية وهو مُنغمس في إيمانه إلى قمة رأسه فمعنى ذلك أنه مغفل أو مخادع. هذا النمط من التحليل يضعنا أمام حقيقة لا يمكن إنكارها بأن الإنسان يأخذ عقيدته ومبادءه من بيئته التي ينشأ فيها. فلو وجدنا أنه نشأ في بيئة مغايرة لوجدناه يؤمن بعقائد مختلفة ويظن أنه يسعى وراء الحق.
فالحقيقة هنا باتت نسبية، وترويج فكر الحقيقة المطلقة لا يخدم سوى في الحروب والسياسة والدفاع والهجوم، إلا أنها لا تساهم في اكتشاف الحقائق.
يؤكد الدكتور الوردي على أن «المجتمعات التي لا تختلف فيها الآراء لا تتطور»، حيث أن المجتمع البشري لا يستطيع أن يعيش بالاتفاق وحده، و«لا بد أن يكون فيه شيء من التنازع أيضاً لكي يتحرك إلى الأمام».
فالاتفاق يبعث التماسك في المجتمع لكنه أيضاً يبعث الجمود. إذ أن التنازع هو ما يؤدي بالمجتمع نحو الحركة والتطور، ولكن على أساس مبدئي لا شخصي. والمجتمع المتحرك هو الذي يحتوي بداخله على جبهتين متضادتين على الأقل، حيث تدعو كل جبهة إلى نوع من المبادئ مخالف لما تدعو اليه الجبهة الأخرى. وبهذا تنكسر كعكة التقاليد على حد تعبير والتر بيغهوت ويأخذ المجتمع إذ ذاك بالتحرك إلى الأمام.
***
لقد حفرت أفكار الدكتور الوردي في عقلي منهجية بحثية لفهم المجتمع البشري بعمق أكبر ولمقاربة التعددية الدينية والاختلافات الفكرية بمنطق حديث مرن قادر على مجاراة ديناميكية العصر.
إن منطق الأبيض والأسود، الحق والباطل.. منطق الانقسام العمودي قد ولى مع العصور المظلمة وتشكل مكانه منطق أجمل، هو منطق التعدد.
يقول الوردي: «إن الذين يمارسون المنطق القديم في هذا العصر يشبهون أولئك الأبطال، من طراز عنترة العبسي، الذين يهجمون بالسيف على جندي حيّ يحمل رشاشاً سريع الطلقات، فهم مهما تفننوا في إبداء ضروب البسالة والشجاعة فإن الرشاش يحصدهم في أرجح الظن، حيث لا تنفعهم آنذاك بسالة ولا حماسة».
Leave a Reply