نبيل هيثم
أمام قلعة حربية في «ويلز»، جمعت الصورة الرئيس الأميركي باراك اوباما وحلفاءه الغربيين، في مشهد رمزي بدا أقرب إلى أحد مشاهد الحروب في الأفلام التاريخية، قبل ان يكشف النقاب عن استراتيجيته للحرب على الإرهاب، بنموذجه الأكثر وحشية، والمتمثل في تنظيم «داعش».
الكل مدعوون إلى الحرب المقدسة ضد الإرهاب، من دول الحلف الاطسي، تسابق بعضها إلى ارسال المساعدات العسكرية لقوات «البشمركة» الكردية، إلى انظمة الخليج العربي، التي لملمت تناقضاتها الملتهبة، فيما فرض الأوروبيون خطوطهم الحمراء باستبعاد سوريا وروسيا، بالرغم من انهما معنيان بشكل مباشر في التهديد «الجهادي»، في وقت تبقى المشاركة الإيرانية موضع تجاذب، سواء بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين والخليجيين، أو داخل الإدارة الأميركية نفسها.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مؤتمر صحفي في ختام قمة حلف شمال الأطلسي في منتجع سيلتيك مانور في نيوبورت |
وُضعت الاستراتيجيات العسكرية والسياسية، وأزاح أوباما النقاب عنها – أو عن بعض منها – وبدأت مرحلة التحضير على المستويين السياسي والعسكري، تمهيداً لتحديد ساعة الصفر للحرب المقدّسة، التي يقر الكل بأنها ستطول، فيما تبقى اهدافها غامضة، بين تصريحات اميركية تؤكد على ضرورة هزيمة «داعش»، وبين مقاربة أوروبية تكتفي بتحجيم هذا التنظيم، بالشكل الذي يضمن بقاءه كخطر قابل للاحتواء… والاستغلال لغايات باتت معروفة. وهكذا تبدو الحرب ضد «داعش» مفتوحة على سيناريوهات عدّة، قد لا تقتصر على ما يدور في أروقة الديبلوماسية الغربية، ومراكز القيادة للجيوش «الأطلسية»، خصوصاً أن الإرهاب قد تحول إلى طرف جدي بات قادراً على فرض سيناريوهات أخرى مفاجئة!
ولذلك، ما زال من المبكر التنبؤ بهزيمة تنظيم «داعش»، ويبدو شاسعاً التفاوت في التوقعات بين رأي يقول إن هزيمته اصبحت مسألة وقت ليس اكثر في مؤشرات الصراع في العراق، التي تشي بأنّ نجم التنظيم المتشدد بدأ بالأفول على وقع الدعم الجوي والاستشاري الذي توفره الولايات المتحدة للجيش العراقي وقوات «البشمركة» الكردية، وبين رأي آخر يستدل بتجربة السنوات العشر الماضية، التي تمكن خلالها تنظيم ابو مصعب الزرقاوي من اعادة ترميم قواه، بعد الضربات التي تلقاها على ايدي قوات الغزو الأميركي ومجالس الصحوات، الى ان تحوّل اليوم إلى امر واقع أربك الحسابات الاقليمية والدولية. ولعلّ الحذر في رفع سقف التوقعات يبدو في محلّه هذه المرّة، وهو ما يمكن تلمّسه مما رشح في الاجتماع الأخير لقادة دول الاتحاد الأوروبي، الذين يبدون شبه مقتنعين بأن اهداف الحرب على «داعش» لن تتجاوز فكرة «التحجيم». ولعلّ المعلن من الاستراتيجية الأميركية يوحي بأن الأمور تسير في هذا المنحى، ويضاف إلى ذلك أن تلك الحملة الدولية المرتقبة ما زالت تحركها سياسات جامدة، تستوحي اجواء الحرب الباردة، وتفتقد إلى البراغماتية التي دفعت يوماً جورج بوش الأب إلى كسر المحظورات حين قرر مهاجمة نظام صدام حسين في العام 1990.
ولعلّ في ما صرّح به أوباما خلال قمة «ويلز»، وفي ما تضمنته مواقف شركائه «الأطلسيين»، ما يوحي بأن استراتيجية الحرب على «داعش» تحوي من الثغرات ما يكفي لتحويلها إلى مغامرة، قد تعزز الإرهاب، عوضاً عن دحره.
فقد استبعد الرئيس الأميركيي إرسال قوات برّية أميركية للقتال في العراق أو سوريا، مشيراً إلى ان التحرك الدولي المرتقب «لا يعادل حرب العراق»، موضحاً ان الامر سيكون «شبيهاً بذلك النوع من حملات مكافحة الإرهاب التي نشارك فيها باستمرار على مدى السنوات الخمس أو الست أو السبع الماضية»، وهو يقوم اساساً على «تنفيذ ضربات جوية دعماً للعمل الذي تقوم به القوات العراقية والقوات الكردية على الأرض».
ويعكس كلام اوباما هذا أن الحرب على الارهاب ستكون شبيهة إلى حد كبير بالعمليات العسكرية التي تنفذها القوات الأميركية على الحدود الباكستانية- الأفغانية منذ سنوات، والتي لم تنجح حتى اليوم في ضرب العمود الفقري للإرهاب، لا بل أن تنظيمات متشددة مثل «القاعدة»، وحتى «داعش»، باتت قادرة على فرض وجودها بقوة، وهو ما تبدّى الأسبوع الماضي في إعلان أيمن الظواهري قيام فرع جديد لتنظيمه المتشدد في شبه الجزيرة الهندية!
وإذا ما استرجعنا واقع أن الاحتلال العسكري المباشر للعراق، والذي دام عشر سنوات، وما رافقه من استراتيجيات ودعم للعناصر المحلية، المتمثلة بصحوات العشائر السنية، وقارناه بالواقع الحالي، لوجدنا ان الضربات التي تعرضت لها التنظيمات الارهابية في هذا البلد، قلّصت من سطوة التكفيريين، لكنها لم تقصم ظهرهم، بدليل انهم استعادوا تجميع قواهم بشكل غير مسبوق حالما سنحت لهم فرصة الفراغ الأمني. وإذا كان الامر على هذا النحو في احتكاكات مباشرة بين الجيش الاميركي والجماعات المنبثقة من «القاعدة»، فما بالك في تكتيكات عسكرية كتلك التي يطرحها أوباما، والتي بدا أن الجهاديين قد اكتسبوا خبرات عالية طوال السنوات الماضية في تجاوزها؟
وبات من شبه المؤكد أن «داعش» قد جهّز خططه المواجهة لأي سيناريو محتمل، وهي تتراوح بين تأمين قيادته، حتى لا يفقد التنظيم عموده الفقري من الناحية التنظيمية، وسحب مقاتليه من المواقع التي يسهل استهدافها بالغارات الجوية، وبين اعتماد استراتيجيات مستوحاة من تجارب عدّة، نجحت فيها مجموعات مسلحة متعددة المشارب والانتماءات، في الشرق الأوسط ومناطق اخرى من العالم، في استدراج الجيوش النظامية إلى مفاجآت مرعبة.
وتتمثل الثغرة الثانية في الاستراتيجية الأميركية في موقف أوباما، وغيره من المسؤولين الأميركيين، والأوروبيين، بأن «لا مكان لنظام الاسد» في الحرب على «داعش»، وهو ما يعني بشكل او بآخر، ان مركز الثقل في هذه الحرب سيكون في العراق، فيما تبقى سوريا على هامشه. ويتجاهل هذا الموقف أن «داعش» ليس محصوراً بالعراق، بل يمتد إلى سوريا، التي استطاع التنظيم المتشدد أن يحقق تقدماً عسكرياً واسعاً فيها، سواء ضد الجيش السوري أو ضد قوى المعارضة المسلحة، بما في ذلك «جبهة النصرة» و«الجبهة الإسلامية»، حتى بات يسيطر على اكثر من ثلث التراب السوري، بما في ذلك مواقع عسكرية استراتيجية، كان آخرها مطار الطبقة العسكري. كما تتجاهل تلك المقاربة فرضية قيام «داعش» بتوجيه قوته نحو الأراضي السورية، في حال تعرض لضربات قوية في العراق، بما يتضمنه ذلك من احتمالات عدّة، تتراوح بين تكريس نفوذه كدولة امر واقع في سوريا، ونقل عملياته الارهابية إلى مناطق اخرى بعيداً عن العراق، بما في ذلك لبنان، وربما الاردن والسعودية، والمناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في شمال سوريا.
ولا يكفي قول أوباما ان المناطق التي يسيطر عليها «داعش» في سوريا غير خاضعة أصلاً لسيطرة نظام الاسد، ذلك ان الواقع هو ذاته في الأنبار العراقية، كما لا يكفي قول وزير الدفاع تشاك هايغل ورئيس الأركان مارتن ديمبسي ومسؤولين عسكرييين آخرين بأن الضربات الجوية ستشمل مواقع التنظيم المتشدد في سوريا، وبأن معلومات استخباراتية يتم جمعها لهذا الغرض، فالاختبار الحقيقي هو القدرة على الحاق الهزيمة بالتكفيريين على الارض، وهذا الامر يصعب ان يتم من دون انخراط الجيش السوري في الحملة ضد الإرهاب، خصوصاً ان الاستراتيجية الاميركية في العراق تفترض دعم العشائر السنية، وهو ما لم يعد ممكناً اعتماده في سوريا، بعدما تمكن التكفيريون من وأد تمرّد عشائر الشيعطات.
وعلاوة على هاتين الثغرتين، وطبيعتهما عسكرية، ثمة ثغرات لا تقل اهمية في الجانب السياسي، وتتعلق خصوصاً في السعي المتواصل لعزل روسيا عن تلك الحرب، واستفزازها بمشاريع التوسع الأطلسية في شرق اوروبا، وهو امر من شأنه ان يجعل المسرح الدولي غير متجانس في التصدّي للمخاطر المشتركة، ناهيك عن الريبة الواضحة في ما يتعلق بالدور الايراني، وهو ما تبدّى في كلام صادر عن وزارة الخارجية الاميركية مفاده ان لا تنسيق عسكرياً مع الجمهورية الاسلامية في تلك الحرب. وقد يدفع هذا التوجه بكل من موسكو وطهران ودمشق الى العمل على تحالف مواز، يشتت الجهود الدولية لمكافحة الارهاب بدلاً من تنسيقها.
ولا يخرج عن هذا الإطار عدم قدرة الإدارة الاميركية على وضع ركائر واضحة في تعزيز الظهير الإقليمي لتحالفها، سواء في ما يتعلق بالخلافات الخليجية، او في توفير الضمانات اللازمة لحماية مصر من التهديات القائمة على حدودها الشرقية والغربية، وربما الجنوبية، وتلك القائمة في الداخل، وتهدئة مخاوفها من المؤامرات الغربية، أو في ما يخص الضغط على الحليف التركي ليحسم موقفه المتردد من الحرب على «داعش».
وفي جانب آخر، وفيما يؤكد أوباما «أننا لم نرَ أي معلومات استخباراتية فورية عن تهديدات للوطن»، فهو يتناسى تنامي البيئة المتعاطفة مع «داعش» في الكثير من المجتمعات – بما في ذلك الغربية – ما يسمح للتنظيم المتشدد باستخدام اوراق عدّة، ابرزها تصوير الحرب على الارهاب على انها حرب ضد الاسلام، بما يؤدي إلى ردود افعال كارثية خارج حدود «دولة الخلافة».
ولعل الحديث الاخير لشيخ الأزهر احمد الطيب يلخص المقاربة المفقودة في الاستراتيجية الاميركية الشاملة ضد الارهاب، حيث انتقد الامام الأكبر، الذي يمثل المؤسسة الدينية السنية الاكثر اعتدالاً في العالم، ما وصفه بـ«التلكؤ والتثاقل الغربي – الأميركي في التصدي لهذه التنظيمات الإرهابية، وذلك بالمقارنة بالهجوم الغربي، وانقضاضه على دولة العراق في العام 2003، وتفكيك الجيش العراقي وتسريحه في زمن قياسي، وبأسباب ملفقة، وتعلّات كاذبة، واعتذارات تُنبئ بأن هؤلاء القوم لا يفهمون من معنى الأمن والسلام وحقوق الانسان إلا أمنهم وسلامهم وحقوق الانسان الابيض دون غيره من بقية الناس».
ولعل في كلام الطيب ما يستوجب التفكير كثيراً لدى صناع القرار في واشنطن، فهزيمة التفكيريين لا يمكن ان تتحقق الا بمقاربة جديدة تجاه العالم الاسلامي، تقوم اساساً على تسوية عادلة لقضية فلسطين، تعيد الحقوق لأصحابها، وحل الصراعات القائمة في الوطن العربي بدلاً من تأجيجها، والتخلي عن مشاريع التفتيت والفتن القائمة منذ نشوء ما يعرف بـ«المسألة الشرقية» ايام السلطنة العثمانية.
بسرعةٍ كان يتوقّعها المراقبون، شكلت الولايات المتحدة الحلف الدولي الجديد لمواجهة «داعش» في العراق… لكن من الواضح ان ايقاع الحرب الجديدة سيتسم بالبطء، وستواجه عقبات غير متوقعة.
Leave a Reply