لم يكن زين العابدين بن علي في وارد الاعتقاد، فضلا عن التصديق، أن شعبه سوف ينتفض على حكمه الجائر، ويسقطه من أعلى برجه الاستبدادي الذي تحصن فيه لنحو ربع قرن، مضرجا بالذل والخوف، ليتسكع في أجواء الدول “الصديقة” طلبا للهبوط ولملاذ آمن من غضب الشعب التونسي الذي مارس بحقه أبشع صور الاضطهاد والحرمان، محولا تونس الخضراء الى صحراء يباب من الفقر والعوز والقمع.
سقط الطاغية زين العابدين بن علي، متدرجا في خطبه الموجهة الى الشعب، بعد فوات الأوان، قبل أن يسقط عن عرشه. حاول الترهيب بداية، والترغيب لاحقاً، والرجاء أخيراً، لكن كلمة “ارحل” كانت الأعلى دويا في فضاءات المدن التونسية التي لفها الغضب الشعبي العارم بعدما أحرق محمد بوعزيزي جسده في مدينة سيدي بو زيد المنسية في الجنوب التونسي ليضيء ليل تونس بنور الثورة الوهاج ويطلق شعبا بأكمله من أسر الخوف والترهيب على أيدي عشرات الآلاف من البوليس السياسي والأمني الذي أحاط بالدكتاتور ووفر له الحماية والبقاء فوق جثث أحلام الفقراء والطيبين في تونس على مدى ربع قرن.
ربما لم يكن محمد بوعزيزي يدرك أن احتراق جسده سيضيء ليل تونس الطويل بهذه السرعة الدراماتيكية، لكن الضمير الجمعي لتونس ظل مسكونا بتلك الصرخة المدوية التي أطلقها شاعره المتمرد أبو القاسم الشابي في ثلاثينيات القرن الماضي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
.. واستجاب القدر وانكسر القيد أمام ارادة الشعب في حياة حرة خالية من الخوف والإفقار والتجويع والقمع. منح الديكتاتور الفرصة تلو الفرصة، لكن الطغاة لا ينظرون إلى تحتهم. ثمة طبقة سميكة من البطانة محشوة بالانتهازيين والوصوليين تفصل بين الطاغي وهموم الناس، وظيفتها تزيين البؤس الذي يحياه الشعب وإظهاره رضى وقناعة في عين الحاكم، وإيهامه أن الرعية تسبح بحمده ليل نهار، فيزداد انتفاخاً وتعجرفاً ويوغل في استبداده.
يستطيب الطغاة سماع التقارير عن هدوء الشعب وطاعته العمياء ولا يأبهون إن تحقق ذلك بأساليب القمع البوليسي والقهر الوحشي مثلما تجسد على يد تلك الشرطية النزقة التي قلبت عربة خضار بوعزيزي، مصدر رزقه الوحيد، وبصقت في وجهه، قبل أن يدرك الطاغية متأخرا أن انقلاب عربة “الخريج الثانوي” بوعزيزي الذي لم يجد وظيفة أفضل يعيل بها عائلته، قد هز عرش الدكتاتور فترنح وسقط.
الشعب يمهل، ولكنه لا يهمل، وارادة الحياة تبقى أقوى من كل إمكانات الجبابرة والطغاة. لم يتعلم زين العابدين بن علي من عبر التاريخ، ولم يتذكر بيت شاعر بلده الذي طارت شهرته في كل الآفاق وعلى كل لسان ينطق بلغة الضاد، يحفظه الصغار ويترنم به الكبار أنشودة رفض لكل ظلم، ونداء صارخا للمستضعفين والمقهورين “ألاّ يتهيبوا صعود الجبال وألا يعيشوا أبد الدهر بين الحفر”.
لا يدرك الطغاة أن سحق الياسمين يسهم في نشر عطره في الفضاء. هكذا علمت “ثورة الياسمين” بن علي وكل أشباهه من طغاة العرب درسا في احترام الشعوب سوف لن تقتصر تردداته على الفضاء التونسي، بل سيلفح عطرها أنوف المسحوقين في دنيا العرب، لتهز عروشهم وتسقطها واحدا تلو الآخر.
لا طاغية بمقدوره بعد اليوم أن يخنق عطر الياسمين في صدور الناشدين حرية وخبزا وكرامة.
لكن بعض الطغاة الصغار لم يتعظوا بعد. ومن نكد دنيا العرب على أهلها أن يتجرأ ذلك الثوري المنتهي الصلاحية على انتفاضة الشعب التونسي، فيعلن أسفه على زميله الطاغية ويوبخ الشعب التونسي على ثورته المباركة.
لكن لا عتب عليه، لأن الهلع الذي أصابه بعد سقوط الطاغية صدام حسين (حبذا لو سقط على أيدي الشعب العراقي مثلما سقط بن علي على أيدي أبناء شعبه) هذا الهلع اجتاحه للمرة الثانية وهز كيانه بقوة، لأن ارتدادات الزلزال التونسي هي أقرب الى عرشه من أي عرش آخر.
وحبذا لو يستمع طغاة العرب الى تحذير شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري، مكملا لصرخة الشابي التونسي:
باق وأعمار الطغاة قصار
من سفر مجدك ماطر موار
.. والمجد أن يحميك مجدك وحده
في الناس لا شرط ولا أنصار
فالشعوب لا حدود لأعمارها، ومهما طالت أعمار الطغاة تظل قصيرة ومصيرها السقوط المحتوم. وحبذا لو يصرف الطغاة ما تبقى من أعمارهم في قراءة تواريخ الشعوب، لعلهم يعتبرون، فيتنحوا قبل أن يلقوا مصيرا مشابها لمصير الطاغية التونسي وقبله العراقي.
مباركة انتفاضة تونس الخضراء فهي أعادت بعض الأمل الى الشعوب العربية بأن الطغيان ليس قدرا محتوما وبأن إرادة الحياة أقوى من كل الأقدار.
Leave a Reply