أحب أن أرثي الملاكم الأميركي جو فريزر، فقد جرحني موته لأسباب شخصية. وكنوع من العزاء عدت لمشاهدة مباراته مع الأسطورة محمد علي كلاي، قبل أربعين عاما، مكبرا شجاعته وجسارته طوال خمسة عشر جولة.
في تلك المباراة، هزم فريزر كلاي وطرحه أرضا، وأخرجه من حلبة البطولة.. والرقص. وبالطبع لم أكن متحمسا خلال المشاهدة ولا متشفيا وأنا أرى محمد علي مستندا على الحبال، ومحشورا في الزوايا.. وفي الورطة الشائكة، رغم نجوميته واعتداده بنفسه وتفوقه الجمساني لنواحي الطول والوزن والقدرة على الانقضاض.
في تلك المباراة، أثبت الغوريلا (كما كان يلقبه محمد علي ساخرا) جدارته مع الملاكم الوسيم الذي “يطير كالفراشة ويلسع كالنحلة”، وكان متواضعا وهو في قمة النصر والتتويج.
وأحب أيضا كبرياء محمد علي واعتزازه بنفسه رغم الهزيمة الساحقة، والمؤلمة، حين قال عقب انتهاء المباراة: إن فريزر هو ثاني أعظم بطل ملاكمة في التاريخ.. بعدي. أنا الأول!
وأحب أيضا حقيقة أن كلاي عاد وهزم فريزر مرتين بعد ذلك، وأحب أيضا حقيقة أن ليلى بنت محمد علي هزمت ابنة فريزر، جاكي، وأخرجتها من عالم الملاكمة رغم خوضها لخمسة عشرة مباراة، لم تخسر فيها إلا مباراة واحدة.
وأحب أيضا حقيقة أن محمد علي كان أول المعزين بموت فريزر، حيث أعلن في تأبينه أنه يصلي لخصمه السابق، وقال في بيان له: سأتذكر دائما جو باحترام وإعجاب!
وأحب فكرة تحول فريزر من عالم الملاكمة إلى عالم الغناء، وتشكيله لمجموعة دعاها “الضربات القاضية”.
وأتذكر.. كان كلاي البطل الذي ذاع صيته بيننا، عندما كنا أطفالا، رغم أننا لم نشاهد أيا من مبارياته. وأفهم الآن أن تلفزيوننا الوطني لم يكن قادرا على شراء تلك المباريات، واكتفى بعرض لقطات أسطورية رسخت في أذهاننا أن محمد علي ملاكم لا يهزم، لدرجة أننا كنا نبرر هزيمته بأساليب طفولية، منها أن خصومه كانوا يضعون المسامير والقضبات المعدنية داخل قفازاتهم كي يتمكنوا من إسقاطه أرضا.
ويأسرني الإعجاب والاحترام المتبادل، بين البطلين الخصمين، كلاي وفريزر. يأسرني إلى درجة عجيبة وأفكر كم نحن بأمس الحاجة لأن نتعلم كيف نتعامل مع “خصومنا” في حلبات الملاكمة والحياة والسياسة والدين. رائع ولائق أن يكون المرء فارسا، حتى في حال غياب الخيول الأصيلة أو الهجينة.
وأما وأننا نذهب إلى خصوماتنا الحياتية والثقافية والسياسية والوطنية بنية تكسير أنف الخصم و”مسح الأرض به”.. وأكثر من ذلك الإجهاز عليه حتى ولو كانت تثخنه الجراح، فهذه فعلا ظاهرة بحاجة إلى الدراسة.. لكي نفهم من نأتي بكل هذه القسوة. حتى سهراتنا مليئة بالقسوة والفجاجة، وكذلك علاقاتنا وصداقاتنا وآراؤنا..
وبالمناسبة فإن القسوة لا تعني القوة، والوقاحة لا تعني الشجاعة، وكذلك فإن الوداعة لا تعني الضعف، والدماثة لا تعني الجبن. ومن الضروري.. أن نتعلم ونتمرن على أصول الاختلاف والخلاف، ليس فقط ضمانا لإنسانيتنا، بل من باب وظيفي.. هذه المرة، لأننا مختلفون ومنسقمون حول كل شيء. وفي كل وقت!
لم ننجح في تلقي الرسائل الأخلاقية ومضامينها العميقة في نصوصنا المقدسة ولا في حكايتنا الخرافية، وعلينا كحل أخير.. أن نتخلى عن عاداتنا وأن نغادر بيوتنا ومنصاتنا وشاشاتنا التفزيونية ودور العبادة، وأن نصعد إلى حلبات الملاكمة.. لنحتكم إلى الضربة القاضية!
Leave a Reply