محمد العزير
في أول مقابلة صحفية له مع الإعلامية المخضرمة في شبكة «أن بي سي»، آندريا ميتشل، بعد المصادقة على تعيينه وزيراً للخارجية في إدارة الرئيس جوزيف بايدن من قبل مجلس الشيوخ، قال أنتوني بلينكن، الدبلوماسي والإداري المتمرس رداً على سؤال إن كان عليك أن تخمّن، هل ستكون في طائرة تحط أولاً في إيران أو في كوريا الشمالية في السنوات الأربع المقبلة؟: أعتقد أولاً أن الطائرة ستحط على الأرجح في أوروبا وفي آسيا مع أقرب حلفائنا وشركائنا، وأتمنى أن يكون ذلك اليوم قريباً».
الترجمة العملية لهذا الجواب الواضح هو أن الوزير (الحريص على التذكير دوماً بأنه ينحدر من عائلة يهودية فقدت العديد من أفرادها في المحرقة النازية إبّان الحرب العالمية الثانية)، وتالياً إدارة بايدن، ليس مستعجلاً لمواجهة الملفين النوويين في طهران أو بيونغ يانغ، قدر استعجاله لرأب الصدع الذي أحدثته السياسات العشوائية للرئيس السابق دونالد ترامب الذي تبجح بالتخلي عن عقود من التحالفات الأميركية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، بعلاقات شخصية وإطراءات من حكام يتراوحون بين الأوتوقراطية المقنعة والديكتاتورية الصريحة… من طيب رجب أردوغان في تركيا إلى كيم جونغ أون في كوريا الشمالية، وبينهما واسطة العقد فلاديمير بوتين في روسيا.
بالنظر إلى أجوبة بلينكن في المقابلة كخريطة طريق أولية لما ستكون عليه سياسة بايدن الخارجية، يمكن القول بشيء من التبسيط، إنها تهدف إلى إزالة الآثار الترامبية بأسرع وقت ممكن، خصوصاً استعادة الدور الريادي لواشنطن في صناعة القرار الدبلوماسي الغربي، والعودة إلى سياسة سلفه الأسبق، ورئيسه المباشر، باراك أوباما، القائمة على احتواء توسع النفوذ الصيني المتعاظم دولياً، والتحكم بالقرار الاستراتيجي للحوض الباسيفيكي على المديين المتوسط والبعيد من خلال زيادة الحضور العسكري والنفوذ السياسي في المحيط الهادئ بالاستناد إلى قطبي أستراليا واليابان، والدفع بالمسار الديمقراطي (الانفتاحي) في الدول المترددة من تايلاند إلى ميانامار (بورما سابقاً) –التي عاجلت الإدارة الجديدة بانقلاب عسكري– إلى فيتنام، ولا بأس في تغيير لا بد منه في الفيليبين.
أين الشرق الأوسط، وبالتالي قضايا العرب في هذه المقاربة؟ باستثناء إسرائيل، الطفل المدلل لأميركا بصرف النظر عن هوية الإدارة الأميركية أو تصنيف الحكومة الإسرائيلية، هناك ثلاثة ملفات دائمة على الطاولة الأميركية؛ قضية فلسطين، التحالفات العربية (تحديداً مع العربية السعودية)، وحديثاً الملف النووي الإيراني بملحقاته الإقليمية –أي تمدد النفوذ الإيراني بذرائع واذرع مذهبية في العالم العربي.
تحاول إدارة بايدن، هنا، الاستفادة من إرث ترامب في ملفين (فلسطين وإيران) وكيده في الثالث، العلاقات مع السعودية والخليج. ففي الملف الفلسطيني، سهّل ترامب على «الصهيوني» بايدن مسألتي القدس والمستوطنات بعدما أعطى لليمين الصهيوني المتزمت أقصى ما يتمناه. وكل ما يمكن أن يتراجع عنه بايدن، بذريعة الواقعية والإنصاف والقرارات الدولية، وهو قليل، سيكون في ميزان حسناته، وإن لم يعد إلى ما قبل ولاية ترامب. فهو لن يعيد سفارة أميركا إلى تل أبيب، ولن تكون القدس غير عاصمة لإسرائيل. وسيكون على الإسلام السياسي الفلسطيني المتمادي في غزة والمتطاول في الضفة توفير الذرائع للوبي التقليدي المؤيد لإسرائيل والذي تمكن السنة الماضية من «تطهير» البرنامج السياسي للحزب الديمقراطي من كلمة فلسطين واقتصاره على «الإرهاب» كعنوان لقضية الشرق الأوسط.
هذا في المبدأ يعني انحسار تراكم سنوات من النضال الشبابي العربي واليهودي والأميركي المعادي لسياسة التمييز العنصري في فلسطين المحتلة والداعي إلى مقاطعة الشركات والمؤسسات الصهيونية أو المتواطئة معها، خصوصاً في الجامعات والمدن الأكثر تقدمية.
وعلى الرغم من الخطر الداهم للقضايا الأميركية الداخلية ولاسيما وباء «كوفيد–19» الذي ورثته الإدارة الجديدة، كان لافتاً مسارعة بايدن إلى وقف صفقات التسلح المعقودة مع المملكة العربية السعودية بحجة ضرورة مراجعتها، وإصرار إدارة بايدن على تعميم أن الرئيس الأميركي يتعامل مع رئيس دولة (الملك سلمان بن عبد العزيز) وليس مع من هو أقل منه رتبة رسمياً (ولي العهد محمد بن سلمان)، مع الحرص على تأكيد العلاقة الاستراتيجية مع المملكة. لكن هذه الوقفات البروتوكولية لم تحجب حقيقة التبدل المطلوب ملاحظته في سلوك الإدارة الجديدة التي رفعت على الفور اسم «أنصار الله» أي جماعة الحوثي عن لائحة المنظمات الإرهابية بعد أسابيع قليلة على تصنيفها الإشكالي من قبل إدارة ترامب، والتي أعلنت ضرورة وقف الحرب في اليمن، والتي بدأت في عهد أوباما عندما كان بايدن نائباً للرئيس.
المتابعون للسياسة الأميركية تجاه السعودية يرون في هذه المواقف عودة إلى ما قبل أوباما. أي إلى أيام السيطرة الصهيونية المطلقة على الحزب الديمقراطي، من منطلق أن التحدي الإقليمي الأخطر لإسرائيل بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، هي السعودية، وما دونها مجرد تفاصيل.
يبقى السؤال المفتوح للمرحلة التالية هو الملف النووي الإيراني. المهم في هذا الملف ليس القدرة النووية الإيرانية العتيدة. أميركا تعرف وإيران تعرف وإسرائيل تعرف أيضاً أنه ليست لدى إيران القدرة على المبادرة النووية لا استعداداً ولا مباشرة. وللبرنامج النووي الإيراني هدف واضح. هو هدف إقليمي لا يستهدف إسرائيل ولا تركيا، فهما تحت المظلة الأطلسية–الأميركية القادرة على مسح إيران برمتها عن الخريطة الجغرافية في أقل من يوم.
تحاول الجمهورية الإسلامية اليوم ما تمكن منه الشاه رضا بهلوي بعد أبيه ولعقود طويلة، وهو ترويع الخليج العربي الغني بالنفط، خدمة لأميركا وحلفائها. وسيكون على أميركا الاختيار بين «الأسوأين»، خليج «رجعي» أو إيران «صديقة»؟ المشكلة الكبرى أنه منذ نشوء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين بمباركة ديمقراطية أميركية (أيام ترومان المحتقر لليهود حسب ملاحظاته) أن المملكة السعودية لم تناور في تحالفها مع واشنطن، وأنها اليوم تتوجه ليبرالياً بما يوائم الغرب وأميركا، فيما ترتد إيران إلى التزمت الديني والاجتماعي.
هذا التناقض الواضح بين السلوك القديم والمتقادم للوبي المؤيد لإسرائيل في عرينه الصهيوني مع بايدن، وبين الحقائق الواقعية على الأرض، حيث الإعلانات السعودية على القنوات الأميركية تروّج للسياحة في مملكة منفتحة ومتفتحة، يشكل تحدياً شخصياً لبايدن. لكن ذلك لن يكون التحدي الوحيد له. فبعد الاجتياح الأميركي المزوّر للعراق (عام 2003) والذي أيده بايدن من موقع مؤثر كونه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، وبعدما واجه الاحتلال الأميركي مقاومة مؤلمة، سارع إلى الدعوة إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دول مستقلة؛ شيعية في الجنوب، سنية في الوسط، وكردية في الشمال. إن لم يكن بايدن قد نسي هذه التوليفة الفتنوية، وإن لم يتوفر له مستشارون من غير الصهاينة، سيكون على العراق وسوريا ولبنان أن يستعدوا لمشاهد تسهل دونها «داعش» وأخواتها.
Leave a Reply