كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لا توجد في لبنان، أحزاب سياسية، كما في الدول الديمقراطية، بل زعماء طوائف وعائلات سياسية، تنشئ أحزاباً لها أو تيارات سياسية بحيث يكون الولاء للشخص وليس للمبادئ التي وإن وُجدت فهي تتمة «ديكور» للحزب أو التيار الناشئ، بحيث ترى عشرات من الأحزاب، منها مَن باقٍ في الخدمة وبعضها انقرض مع وفاة المؤسس أو الوريث، والأمثلة كثيرة ومتعددة، من «الكتلة الدستورية» برئاسة بشارة الخوري إلى «الكتلة الوطنية» برئاسة إميل إدّه، إلى «حزب الوطنيين الأحرار» برئاسة كميل شمعون، و«حزب النجادة» برئاسة عدنان الحكيم، إلى «الحزب الديمقراطي الاشتراكي» برئاسة كامل الأسعد، وغيرها من التنظيمات الحزبية –العائلية والطائفية– كالجنبلاطية والإرسلانية، وقد تحوّلت الأولى إلى «الحزب التقدمي الاشتراكي» مع كمال جنبلاط، والثانية مع النائب طلال إرسلان باسم «الحزب الديمقراطي اللبناني».
تياران في التسعينيات
في حقبة التسعينيات من القرن الماضي، ظهرت الحالة العونية مع العماد ميشال عون الذي شغل منصب قائد الجيش، وعيّنه أمين الجميّل رئيساً لحكومة عسكرية بعد نهاية ولايته في 23 أيلول 1988، ليملأ الفراغ الرئاسي، بعد تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية. ولم يلتحق حينها الوزراء والضباط المسلمون بالحكومة، وحصلت مقاطعة لها في ظل وجود حكومة أخرى برئاسة سليم الحص، فتبلورت مع وجود عون في القصر الجمهوري هذه الحالة التي غذّاها شعار طرد «الاحتلال السوري» من لبنان، وما تبع ذلك من معارك واستقطاب عون للشارع المسيحي، عبر «حرب الإلغاء» التي خاضها ضد ميليشيا «القوات اللبنانية».
خرج عون من قصر بعبدا، ونُفي إلى فرنسا بعد «اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب الأهلية، وأنتج تسوية داخلية برعاية سورية–سعودية وغطاء أميركي، أتت برفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد أن عمل وسيطاً باسم السعودية لحل الأزمة اللبنانية.
دخل الحريري الأب، الحياة السياسية اللبنانية من بابها العريض وسرعان ما بنى شعبية عبر فتح باب المنح الدراسية لاسيما الجامعية، إضافة إلى تقديم المساعدات الاجتماعية، معززاً موقعه بتقديم المساهمات المالية للعديد من القوى السياسية في لبنان، ولمسؤولين سوريين، فرسخ وجوده الرسمي في السراي الحكومي، مع مشاريع ضخمة طرحها لإعادة الإعمار الذي بدأه في وسط بيروت، ولكن باسم شركة «سوليدير» التي كانت له فيها حصة الأسد.
ولم تمضِ سنوات قليلة على وجود الحريري في الرئاسة الثالثة حتى تطلّع إلى تثبيت موقعه عبر الانتخابات النيابية في عام 1996، والتي حصد فيها كتلة وازنة، ليؤسس بذلك تيار «المستقبل» الذي بات الواجهة الرئيسية لـ«الحريرية السياسية»، التي بسطت نفوذها أولاً في الساحة السّنّية عبر تحجيم الزعامات التقليدية فيها، حيث أقصى الحريري، بالتعاون مع المسؤولين السوريين في لبنان، شخصيات سنية مناهضة لمشروعه عبر الانتخابات التي فصلت على مقاسه لاسيما في بيروت.
الحريرية السياسية
نشأت «الحريرية السياسية» مع وجود مؤسسها في رئاسة الحكومة، ولم تقم على مبادئ وأفكار، بل تمحورت حول شخص رفيق الحريري كرجل إعمار وإنماء في لبنان، وتعزيز الليرة اللبنانية، وتمكّن بدعم من «الثلاثي السوري» عبدالحليم خدام والعماد حكمت الشهابي والعميد غازي كنعان، من أن يكون الزعيم السّنّي الأوحد والأقوى في طائفته، وشكّل مع الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط «ثلاثي لبناني» ارتبطت مصالحهم مع الوجود السوري، في وقت كانت القوى المسيحية الأساسية، خارج لبنان، كالعماد عون، أو في السجن، كرئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
ثلاثية الحريري–بري–جنبلاط، رسخت نفوذ الزعماء الثلاثة في طوائفهم، فقوي برّي شيعياً، في وقت كان «حزب الله» يخوض المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي بعيداً عن السياسة، كما بات جنبلاط الزعيم الأقوى درزياً دون منافس حقيقي، مع اضمحلال شعبية طلال إرسلان لصالح جنبلاط الذي استأثر بالحصة الدرزية بدعم من النظام السوري عبر إسناد حقائب وزارية له، ومنها وزارة المهجرين، فيما استأثر الحريري بالطائفة السّنّية، لاسيما بعد «قانون غازي كنعان» لانتخابات عام 2000، التي أطاحت بشخصيات سنية بارزة مثل الرئيس سليم الحص، الذي أصر الحريري على هزيمته بامرأة (النائبة السابقة غنوة جلول).
تعزيز المحاصصة
ومع وجود الحريري في السلطة، وتعزيز حصة السنة في النظام الطائفي عبر «اتفاق الطائف»، الذي عزّز صلاحيات رئيس الحكومة، فظهرت «السّنّية السياسية» مع ضمور «المارونية السياسية»، فاستشرت المحاصصة بين أطراف إسلامية ثلاثية، برّي وجنبلاط والحريري، فكانت المكاسب والمغانم في مؤسسات الدولة ومشاريعها، يتقاسمها «الثلاثي الإسلامي»، ويشاركهم فيها من بعيد النائب ميشال المر الذي كان الأقوى مسيحياً في السلطة من خلال وزارة الداخلية، فعرف لبنان المحاصصة في أبشع وجوهها تحت ظل الغطاء الإقليمي السوري–السعودي (س–س) الذي لم يساعد على تخطي لبنان للطائفية وتطوير نظامه السياسي، الذي مارس أركانه كل أساليب الزبائنية السياسية، في توزيع المغانم وتقاسم مؤسسات الدولة ومزاريب الهدر كمجلس الجنوب والإنماء والإعمار وصندوق المهجرين وكذلك في الأجهزة الأمنية والعسكرية والسلكين الدبلوماسي والقضائي كما الإداري.
السوليدير
في ذلك الوقت كان رفيق الحريري يدير موارد الدولة، كشركة خاصة، كما كان يقول معارضوه. إذ لم يكن يهمّه فعلاً سوى إعمار الوسط التجاري في بيروت (سوليدير) للاستفادة منه كوجهة سياحية تدر مليارات الدولارات سنوياً، وذلك في إطار بناء اقتصاد وطني يقوم على السياحة والخدمات مع إهمال شبه كامل للقطاعات الإنتاجية الأخرى، مثل الصناعة والزراعة وتنمية الأطراف.
كان الحريري يحكم بـ«قبضة حريرية». فإذا ما عارضه أحد، كان يسأل: «كم سعره؟» حتى يدفع له ويتخلص من «مشاغباته»، سواء في السياسة أو الإدارة أو حتى في الاستحواذ على أملاك الوسط التجاري بالرغم من احتجاجات أصحاب الحقوق، وكذلك في الاستيلاء على أرض النورماندي التي كانت ترمى فيها النفايات بالقرب من مرفأ بيروت، والتي ضمّها الحريري الأب إلى مشروع «سوليدير». وقد ذكر الرئيس السابق إميل لحود أن سعر تلك الأرض يقارب 30 مليار دولار، وفق تقييمات الخبراء العقاريين والمسؤولين في مجلس الإنماء والإعمار.
وبعد أن نجح الحريري بالسيطرة على وسط بيروت ومحيطه، تحت شعار «إعادة الإعمار»، بدأت حكومات الحريري بالاستدانة لتمويل المشاريع التي تخدم رؤيته الاقتصادية إلا أن الدين العام راح يتراكم، وترتفع خدمته عاماً تلو آخر حتى وصل إلى المستوى الكارثي الذي بلغه اليوم، والذي حذر منه معارضو «الحريرية السياسية» منذ نشأتها في التسعينيات.
الوريث السياسي
عندما كان الحريري الأب رئيساً للحكومة، كان ينجح في جعل التطورات تصب في صالحه دائماً، فعندما حصلت محاولة لإضعافه بعد انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، جاء مَن ينقذه في النظام السوري، عبر قانون إنتخاب أسقط خصومه وعلى رأسهم الرئيس الحص، ليحصد الحريري كتلة نيابية كبيرة في انتخابات عام 2000، ويعود إلى رئاسة الحكومة عودة الأبطال ليبدأ العمل على تحجيم عهد لحود والمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وتسليم «حزب الله» سلاحه للدولة بعد تحرير الجنوب.
تناغم الحريري في هذه المطالب مع جنبلاط والبطريرك الماروني نصرالله صفير وقوى سياسية أخرى مرتبطة بالغرب، ليؤسسوا لمرحلة جديدة بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق وسقوط نظام صدام حسين عام 2003، وفي ظنّهم أن النظام السوري هو التالي، حسب إشارات أميركية وردت بهذا الاتجاه، فصدر القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، لمنع التمديد للرئيس لحود، والدعوة إلى نزع سلاح الميليشيات (حزب الله) وانسحاب الجيش السوري.
وفي 14 شباط 2005، وقع زلزال اغتيال الرئيس الحريري الذي خلط استشهاده أوراق المشهد السياسي في لبنان وأنشأ تياري «8» و«14 آذار». أما «الحريرية السياسية» فورثها ابنه سعد، بعد أن كانت الأنظار تتّجه إلى أخيه الأكبر بهاء، غير أن القرار السعودي كان حاسماً في هذه المسألة فوقع الخيار عليه ترامناً مع قرار دمشق بالانسحاب من لبنان، الذي كان في صلب مشروع «الشرق الأوسط الجديد» لإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن.
وبعد 15 عاماً من تجربته السياسية، يمكن القول إن وريث «الحريرية السياسية»، لم يحسن إدارتها، حتى أنها باتت اليوم على شفير إفلاس سياسي ومالي.
توالت الخطوات التي أقدم عليها الحريري الابن خلال تجربته، من مصالحة الرئيس السوري بشار الأسد ثم الانقلاب عليه لاحقاً، ومن التصويب على المقاومة إلى ربط النزاع مع «حزب الله» بعد فشل «الثورة السورية»، وصولاً إلى التسوية مع «التيار الوطني الحر» التي أدت إلى انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية فيما يجد الحريري نفسه اليوم خارج السراي الحكومي.
فشل سعد مراراً في إدارة الأزمات، فأخرج من الحكومة عام 2011، وغادر لبنان ليعود إليه في 2016، بعد التسوية الرئاسية التي أعادته إلى رئاسة الحكومة مؤقتاً قبل أن يستقيل منها مرتين، مرّة مرغماً من السعودية، ومرة أخرى من بيروت، استجابة للحراك الشعبي.
ومع تعاقب النكسات السياسية تحت إدارة سعد، كان أخوه يتخبط مالياً من خسارة إلى أخرى، فأفلست شركة «سعودي أوجيه» مع شركات أخرى تابعة لها، وأقفل الحريري مؤسساته الإعلامية والصحية والتربوية والخدماتية في لبنان، وبدأ تنظيمه «تيار المستقبل» يتراجع ويتقهقر، ويحصل داخله صراع محاور، زاد منه موقف النظام السعودي بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان الذي يتهم سعد بالضعف أمام نفوذ إيران في لبنان، فأجبر على الاستقالة من الرياض في 3 تشرين الثاني 2017، وأنقذه حينها العماد عون.
إلا أن الحريري وبغلطة جديدة في حساباته السياسة، قرّر الخروج من التسوية علّ ذلك يحسن موقعه داخلياً، فاستقال من الحكومة دون استشارة أطرافها ظناً منه بأنه عائد إليها لا محالة. ولكن الحكومة الجديدة تشكلت سريعاً برئاسة حسان دياب الذي قد يبقى في رئاستها سنوات، إذا ما نجح في إنقاذ لبنان من أزمته المالية وأعاد تحريك العجلة الاقتصادية، إلى جانب محاربة الفساد ووقف الهدر.
بذلك، يضع الحريري الابن نفسه في موقع المتأمل بفشل الحكومة، رغم ما يعنيه ذلك من انهيار مالي واقتصادي قد يصيب لبنان، من أجل عودته إلى الحكم. ولكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التصويب على حكومة دياب التي صعّد بوجهها قبل أن يدرك بأن عودته إلى السراي ليست مضمونة في ظل التطورات في المنطقة، وهو الذي فقد الدعم السعودي المطلق الذي نعم به والده كوكيل حصري للرياض في لبنان، كما التأييد الفرنسي الذي تحوّل إلى الحكومة الحالية، فيما الاهتمام الأميركي به يكاد لا يذكر.
هذا الموقع الذي وجد سعد الحريري نفسه فيه، سيضاعف من خسائره السياسية، لاسيما وأن المزيد من أنصاره سيتبددون من حوله بعد فقدانه لمقدرات المال والسلطة، لتصبح «الحريرية السياسية»، التي بدأها الحريري الأب من كرسي رئاسة الحكومة، مهددة بالأفول مع خروج ابنه من السراي.
Leave a Reply