عشرون عاما هدرت والبنود الاصلاحية لاتفاق الطائف لم تنفذ
بيروت –
هدر اللبنانيون عشرين عاماً، ولم يحققوا الإصلاحات المطلوبة لنظامهم السياسي، التي أقروها في اتفاق الطائف، وتحوّل بعضها الى نصوص دستورية.
وكانوا صرفوا من الوقت حوالي ربع قرن، لإلغاء الطائفية من المادة 95 من الدستور، والتي وصفوها بالمؤقتة، ولم يفعلوا، وقد داهمتهم الحرب الأهلية منتصف السبعينات واخذت طابعا طائفيا، بعد أن مروا بأزمات سياسية ومعارك أمنية، منذ الاستقلال في العام 1943، إذ ما زالت خطابات القسم لرؤساء الجمهوريات وكلماتهم إلى اللبنانيين في المناسبات الوطنية، وتحديداً الاستقلال، تشدد وتؤكد على ضرورة بناء دولة الاستقلال، والخروج من الحالة الطائفية، وتحقيق إصلاحات في النظام السياسي، وتعزيز اللامركزية الإدارية، وإلغاء طائفية الوظيفة واعتماد الكفاءة، وتوسيع الإنماء وتوزيعه على مختلف المناطق لا سيما الريفية منها والنائية، الى محاربة الفساد ومنع الرشوة ومحاسبة الفاسدين والمرتشين، وإنجاز استقلالية القضاء ومنع تسلط السياسيين عليه، بفصله عن السلطة السياسية، وتقوية الجيش وتعزيز قدراته لمواجهة العدو الإسرائيلي.
هذه العناوين الإصلاحية التي كانت ترد في كل البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال قبل 66 عامًا حتى الحكومة الحالية، وكلها كانت تدعو إلى إقرار قانون انتخاب عادل، وصل اتفاق الطائف على التأكيد أن يكون خارج القيد الطائفي، واعتماد المحافظة كدائرة انتخابية مع النسبية.
لم يقر من هذه البنود الإصلاحية، أي بند لا قبل الطائف أي منذ استقلال لبنان، ولا بعد الطائف الذي أوقف حرباً أهلية دامت حوالي 15 عاماً، ورسم خارطة طريق إصلاحية، ولم تتقدم الحكومات المتعاقبة منذ أن أقر الاتفاق على وضع بنوده موضع التنفيذ، فلم تشكل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، ولم تقر اللامركزية الإدارية، ولم يصدر قانون انتخاب يتوافق مع التمثيل السياسي السليم، لا بل تم التراجع في اتفاق الدوحة، عن كل ما أورده الطائف، وصدر قانون يستنسخ ذلك الذي صدر في العام 1960، واعتمد القضاء دائرة انتخابية، وجرت الانتخابات النيابية لهذه الدورة على أساسه، مما زاد من الحالة الطائفية، وتعمقت الانقسامات الداخلية، إلى حد التمذهب السياسي، فكان لبنان يعيش في “طائفية سياسية” فبات أمام مذهبية سياسية كرستها صيغة ابتدعت من خارج الدستور سميت بـ”الترويكا” إذ دخل الطرف الشيعي أو الممثل الشيعي في النظام السياسي، وهو رئيس مجلس النواب، شريكاً في القرار، منذ عهد الرئيس الياس الهراوي، وقد استعيض عنها بصيغة الثلث الضامن في الحكومة، مما يكشف عن انحدار في تركيبة النظام، الذي يولّد الأزمات وكان آخرها أزمة تشكيل الحكومة التي لم تبصر النور إلا بدفع خارجي.
فالإصلاح عبارة ترد على كل شفة ولسان، وهو عنوان دائم عند كل السياسيين والأحزاب، وحتى عند بعض رجال الدين، لكن في التطبيق، لا يتقدم أحد باتجاهه، فيهربون من هذا الاستحقاق، الذي لو أقر وسار نحو التنفيذ فإن الكثير من الزعماء الذين تقوم مكانتهم السياسية وحضورهم الشعبي على الطائفية ومضامينها، يفقدون هذا الامتياز الذي يجنون منه المقاعد النيابية والحقائب الوزارية والعسكرية والأمنية والقضائية والتربوية، فيوزعونها على أزلامهم والمحسوبين عليها، ويحمونهم في المواقع التي ينتدبونهم إليها، حتى لو أفسدوا.
والعملية الإصلاحية اليوم يقوم بها إصلاحيون، لذلك لا يقتنع اللبنانيون أن زعماء طائفيين، سيعملون لإلغاء الطائفية، وأن رجال دين سيوافقون أن تلغى الطائفية، لذلك تأخرت 66 عاماً عن الوصول الى إزالتها من النفوس والنصوص، وهذه المقولة التي يلجأ إليها البعض لوضع إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص، وكان آخرهم البطريرك الماروني نصرالله صفير، فهي دعوة صريحة لعدم إلغاء الطائفية، أو كمن يدعو الى تطبيق العلمانية لإحراج المسلمين الذين تقر شريعتهم الدينية بحكم الدين والدولة معاً، ولأن الحكم يقوم على الدين والشريعة الإسلامية، وليس على قوانين وضعية.
والدعوة التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري الى ورشة إصلاحية، بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وإقرار قانون اللامركزية الإدارية، وإنشاء مجلس شيوخ، بعد أول انتخابات خارج القيد الطائفي، هذه الورشة يقول الرئيس بري أنه لن يتراجع عنها، بالرغم من الحملة السياسية والطائفية عليه ،لا سيما من القوى السياسية والحزبية المسيحية وبمباركة البطريرك الماروني، التي تخشى ان تخسر رئاسة الجمهورية وبعض الوظائف الكبرى في مؤسسات الدولة ، لان وضع لبنان لم يعد يحتمل المماطلة والتسويف، مع الحالة الطائفية والمذهبية التي نمت كثيراً في المجتمع وترعرعت بين صفوف الشباب، وباتت تهدد السلم الأهلي الذي كاد خلال السنوات الأربع الماضية ان يسقط في خضم الصراعات السياسية التي كانت تتحول الى طائفية ومذهبية.
ولا يكتشف الرئيس بري جديداً، أو يحاول أن يقدم طروحات من خارج اصلاح الواقع السياسي، فهو مثله مثل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، يدعو إلى إطلاق مشاريع إصلاحية في شتى المجالات وقد وردت معظمها في اتفاق الطائف الذي مرّ على صدوره عشرين عاماً، ولم ينفذ،
وكل ما هو مطلوب، هو أن تقر الإصلاحات التي وردت فيه، لا البحث عن بديل له، ولا الخروج عنه، أو التفتيش عن اتفاق غيره، ظن البعض ان اتفاق الدوحة هو البدل عن ضائع، وقد طبقت مندرجاته كلها، وكان تسوية سياسية برعاية عربية تولتها دولة قطر، وقامت على انتخاب رئيسٍ للجمهورية توافقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية يكون للمعارضة فيها الثلث الضامن وإقرارها قانون انتخاب على أساس صيغة قانون 1960 وإجراء الانتخابات النيابية، ومتابعة الحوار برعاية رئيس الجمهورية حول الإستراتيجية الدفاعية.
وقد نفدت كل بنود اتفاق الدوحة، ولم يعد متداولاً به، لأنه أنهى أزمة معينة تتعلق بمشاركة المعارضة في السلطة، وأوقف فتنة كادت ان تنشب جراء الاصطفاف السياسي الحاد بين طرفي الصراع في الموالاة والمعارضة، والتي انتهت الانتخابات النيابية لتعيد خلق خارطة تحالفات جديدة، بخروج وليد جنبلاط من قوى “14 آذار”، التي تصدعت مع تشكيل الحكومة الجديدة. فاتفاق الدوحة ليس بنوداً دستورية وهو جاء بظرف سياسي وامني معين، أما اتفاق الطائف فهو مرحلة لم تنته، ولم يستنفد تطبيقه، إنما قد تكون الرعاية له قد انتفت مع التحولات العربية والدولية التي طرأت مع الاحتلال الاميركي للعراق، ومع خروج القوات السورية من لبنان، التي كان وجودها مرتبطا في تنفيذ بنود الطائف الإصلاحية، لان الاقتتال بين اللبنانيين نشب على خلفية تحقيق إصلاحات سياسية في النظام وإسقاط الطائفية السياسية التي كانت تتمثل بـ”المارونية السياسية” في السلطة، لإفساح المجال للطوائف الأخرى أن تشارك في الحكم، من خلال مجلس الوزراء، الذي تحوّل الى مؤسسة وفيه تؤخذ القرارات، وبات إلزاما بعد اتفاق الطائف أن تكون الحكومات تمثل العيش المشترك والوحدة الوطنية، كما نصت الفقرة “ي” من مقدمة الدستور.
وما زال اتفاق الطائف صالحاً لتطبيق بنوده، والانتقال من مرحلة الى أخرى، فإذا كانت ولادته ساهمت في وقف الحرب الأهلية، واستعادة وحدة المؤسسات، فان إصلاح هذه المؤسسات لم يتحقق، بالرغم من قيام مؤسسات أقرها اتفاق الطائف لتطوير النظام وقوانينه ومأسسته كالمجلس الدستوري الذي جرى تعطيل الدور الذي أنيط به لمراقبة دستورية القوانين، والمجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي يساعد في رسم السياسية الاقتصادية والاجتماعي للدولة، والمجلس الوطني للإعلام، وهي أضيفت إلى المؤسسات الموجودة والتي أنشئت في عهد الرئيس فؤاد شهاب لقيام دولة المؤسسات، مثل مجلس الخدمة المدنية، وهيئة التفتيش المركزي، لكن تم شلها أو الحد من عملها تدخل السياسيين فيها، وهو ما عطل الإصلاح الإداري، الذي لم يرافقه إصلاح سياسي، الذي لا مكان لإصلاح الدولة ومؤسساتها من دونه.
ويجمع اللبنانيون بعد تجاربهم المريرة مع نظامهم السياسي وعلة الطائفية فيه، أن الإصلاح يبدأ من المكان الذي تنبثق منه السلطة، وهو مجلس النواب الذي هو أم المؤسسات، ويشّرع القوانين، ويحدّث الدولة، ويفرض المراقبة والمساءلة والمحاسبة على كل السلطات وهذا المجلس النيايي المرتجى منه أن يقوم بدور المشّرع والرقيب والمحاسب، يجب ان يخرج من رحم قانون انتخابات لا طائفي، لينتج مجلساً نيابياً متحرراً من الطائفية والمذهبية والإقطاعية السياسية، ونفوذ المال، ويفتح الباب للتنافس بين الأحزاب التي يفرض تشكيلها ان لا تكون طائفية، وعندها تصبح الانتخابات على قاعدة سياسية لا طائفية، كما في كل الدول التي تخطت الطائفية في نظامها، فارتقت الى مصاف الدول المتقدمة، ومارس شعبها الديمقراطية في كثير من الرقي، وعندها يصبح الفرز السياسي بين موالاة تحكم ومعارضة تعارض، وتتحول الديمقراطية من طائفية توافقية، الى ديمقراطية حقيقية على أساس برامج، لا تتمحور حول أهداف طائفية أو مذهبية أو فئوية ومناطقية.
فالإصلاح المنشود الذي فتح الرئيس نبيه بري بابه، ولاقاه رئيس الجمهورية وبعض قيادات الأحزاب والتيارات السياسية والنخب في المجتمع المدني، هل يقفله تعنت بعض من يرى ان لبنان أنشئ من أجل طائفته أو يخيفه ان تأخذ طوائف مكان طائفته السلطة؟
إن الإصلاحيين الذين يواكبون الإصلاح، لا ينظرون إليه من منظار أن يكون التغيير في النظام باتجاه استبدال طائفة بأخرى في السلطة، أو قفز مذهب إلى الحكم مكان آخر، أو ان يستأثر فريق طائفي بالقرار، دون الآخرين، فهذا ليس الإصلاح الذي لا يكون بإلغاء طائفية لصالح طائفية أخرى، بل التأسيس لإزالة كل الحالة الطائفية من كل المواقع السياسية والحزبية الإدارية، والتدرج باتجاه إقفال كل المؤسسات التي لها طابع طائفي، وتقويه مؤسسات الدولة على المؤسسات الطائفية، وتحرير الدولة من هيمنة رجال الدين، وتنزيه الإدارة من الطائفيين.
ويبقى أن من يقوم بالإصلاح هم الإصلاحيون ومن يلغي الطائفية هم اللاطائفيون، ومن يحارب الفساد هم أصحاب الأيادي النظيفة ومن ينشئ إدارة نظيفة بعيدة عن الرشوة هم موظفون كفؤون لم يصلوا عبر بوابات الزعماء فيتحولون إلى أزلامهم.
Leave a Reply