عندما يخبو صوت العقل وتغيب الحكمة ويتوارى المنطق وتحل المصالح الشخصية الضيقة مكان المصلحة الوطنية العامة، وعندما يصبح الغرور والتحدي السلبي والإمعان في الخطأ نهجاً معتمداً في التعاطي مع الأزمات، ستكون النتيجة مزيداً من التوتر والاحتقان وسوف تعم الفوضى وتستشري الغرائز المدمرة في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب لم يكد يبرأ من الندوب التي تركتها الحرب الأهلية، ولا زال يعاني من الاشتباك الشيعي–السني في المنطقة من سوريا إلى اليمن والعراق، مع تواجد أكثر من مليون نازح سوري يعيشون ظروفاً اجتماعية واقتصادية قاسية وظالمة وسط تخلٍ تام– وربما مقصود– من قبل الدولي عن أية مسؤوليته تجاههم.
لذلك فإن السلم الأهلي في لبنان فوق كل اعتبار، والأمن الاجتماعي في لبنان فوق الجميع وفوق المسؤولين من صغيرهم إلى كبيرهم.
على خلفية هذا الواقع المعقد والمتشابك، فإن ما تفوه به الوزير جبران باسيل بحق الرئيس نبيه بري مرفوض ومدان، ولا يعذر بأي حال. وفي الوقت ذاته، فإن ما حصل لا يبرر التعرض للرئيس ميشال عون ولعائلته بكلام جارح ومخل بالآداب. كما أن أعمال الشغب وحرق الدواليب في الشوارع وإطلاق الرصاص وإغلاق الطرقات وترهيب المواطنين والتعدي على الممتلكات الخاصة والعامة هي سلوكيات مدانة ومرفوضة من حيث المبدأ، فضلاً عن أنها لا تؤدي إلا إلى مفاقمة الأزمة وتسعيرها وتعقيدها. وفي كل الأحوال، لا يجب السماح لبعض الصبية والشبان المتهورين والطائشين اللعب بمصير وطننا وسلمه الأهلي، ولا يجب أبداً الاستخفاف بما يمكن أن يفعله هؤلاء نتيجة قصورهم وافتقادهم للوعي والإدراك.
كذلك، لا يجب أن نغفل عن العدو الإسرائيلي المتربص والمتحيّن للانقضاض على لبنان لضرب مقاومته وتخريب سلمه الأهلي وسرقة ثروته النفطية، وهو الذي سارع في لحظة لبنانية حرجة إلى التهديد عبر وزير أمنه أفيغدور ليبرمان والادعاء بأن لبنان «تعدى» على ثروة إسرائيل النفطية عبر تلزيم «الحقل رقم ٩» الذي يزعم ليبرمان أنه ملك للدولة العبرية!
إسرائيل التي ما زال عملاؤها يسرحون فوق الأراضي اللبنانية، كانت قد حاولت من فترة وجيزة اغتيال القيادي في حركة «حماس» محمد حمدان في مخيم عين الحلوة بعبوة ناسفة.
إسرائيل هذه.. تطل بقرن الشيطان على لبنان الذي هزمها شرّ هزيمة وجرّعها الذل والهوان وألحق بها العار ودحرها من أرضه عام ٢٠٠٠ ومرَّغ أنفها بالتراب عام ٢٠٠٦، تعود وتطل بقرنها باحثة عن أية فرصة أو ثغرة لتنفذ منها إلى العمق اللبناني وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وتهدم كل ما أنجزه لبنان على مستوى لحمته الوطنية وسلمه الأهلي. فمن يضمن أن لا تحرك الدولة العبرية خلاياها النائمة في عسس الليل لكي تقتل مواطناً مسيحياً هنا أو شيعياً هناك، فتلعب على الوتر الطائفي في مناطق متحاذية لم تزل معالم خطوط تماسها موجودة منذ انتهاء زمن الحرب الأهلية المشؤومة؟
وقع باسيل في شرّ أعماله ولم يجد من يقف إلى جانبه ولا من يسعفه في مأزقه الذي حفره بلسانه ولا من يوافقه في تهجمه على الرئيس بري حتى خرج الغوغائيون والفوضويون فعاثوا خراباً وأبلوا شراً وتجنوا وتعدوا وأحرقوا وخربوا فمدوا حبل النجاة لباسيل وأخرجوه من مأزق ما كان يمكنه الخروج منه إلا مطأطأ الرأس. وما هي إلا ساعات حتى أطلّ وزير الخارجية مرفوع الرأس يمشي «بخطى بشير» ليصبح بلمحة بصر عنوان «الكرامة المسيحية» والمدافع عن حقوق المسيحيين والممثل لعنفوانهم، فيما أصبح سلمنا الأهلي متوقفاً على كلمة «اعتذار» لن ينطق بها ولن يتجرع نتائجها.. لأنه يعتقد بأنها ستشكل انكساراً له و للإرادة المسيحية.
أما الآخرون.. فقد واصلوا بثهم على نفس الموجة لإيمانهم بأن الهيبة الشيعية ستكون على المحك إذا لم يعتذر رئيس «التيار الوطني الحر».
وبين الكرامة (المسيحية) والهيبة (الشيعية) أُدخل السلم الأهلي إلى غرفة العناية المركزة، ونسي باسيل –فجأة وبلا مقدمات– أو لعله تناسى، أن الحقوق المسيحية وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية، لم تكن لتُسترد لولا تفاهم ٦ شباط مع «حزب الله» الذي باركه الرئيس بري وكان شريكاً به ولو بشكل غير مباشر.
ومن هذا المنطلق، وعلى مشارف الذكرى الـ١٢ على توقيع وثيقة «مار مخايل» في ٦ شباط ٢٠٠٦، وحفاظاً وصوناً وتحصيناً لهذه الوثيقة، ومراعاة واحتراماً ووفاءً للسيد حسن نصرالله –«واسطة العقد» بين الحليفين– فإن طرفي النزاع مطالبان بالعمل على إيجاد الحل الملائم والمناسب لإنهاء الأزمة أو أقله حصرها ضمن المؤسسات الرسمية، فـ«حركة أمل» معنية بشكل أساسي بضبط شارعها وتحصينه من التعديات والتجاوزات تفادياً لعدم تكرار واقعتي ميرنا الشالوحي والحدث، كما أن الوزير باسيل مطالب بالاعتذار الشجاع خاصة بعد أن بادر الرئيس بري بالاعتذار من الشعب اللبناني الذي تضرر نتيجة أعمال التخريب… فماذا ينتظر جبران باسيل؟
Leave a Reply