ديربورن – طارق عبدالواحد
ما إن أعلنت حاكمة ميشيغن غريتشن ويتمر أمراً تنفيذياً يطالب جميع سكان الولاية بالبقاء في منازلهم للحد من انتشار فيروس «كوفيد–19»، حتى تغير وجه ديربورن المألوف، وتحولت أحياؤها ومرافقها النابضة بالعمل والحياة إلى مساحات مقفرة أو تكاد، فيما انخفضت حركة المرور في شوارعها الأساسية حتى الحد الأدنى خلال النهار، وغدت خلال الليل مكاناً موحشاً أقرب إلى تلك اللقطات التي تبعث على القشعريرة في أفلام الرعب.
وحتى في ساعات الذورة، تراجعت حركة السيارات عن وتيرتها المعتادة في شوارع المدينة الأكثر ازدحاماً، مثل وورن وشايفر وفورد وميشيغن أفينيو، وغيرها من الشرايين الحيوية لمناطق الكثافة العربية، سواء لناحية السكان القاطنين في هذه المنطقة، أو لناحية الأعمال التجارية التي تتراصف جنباً إلى جنب على امتداد هذه الشوارع وتقاطعاتها.
كذلك، خلت الطرقات الفرعية من المارة وصخب الجيران وحركتهم المتواصلة، ولولا السيارات المرصوفة عند مداخل المنازل، لتصوّر المرء أن البيوت خالية من أصحابها.
هو صمت موحش تعيشه الأحياء السكانية في عاصمة العرب الأميركيين، أما الذين تلقاهم في محلات البقالة أو محطات الوقود، فتراهم «سكارى وما هم بسكارى»، بحسب تعبير الآية القرآنية، فالتحيات والدردشات العابرة في أدنى مستوياتها، وعن بعد، التزاماً بالوصايا الصحية بعدم الاختلاط… وأما المصافحات والمحاضنات بين الأقارب والأصدقاء.. فقد باتت «نسياً منسياً».
العرب الذين غالباً ما يوصمون بأنهم لا ينصاعون للضوابط التنظيمية، لم يستجيبوا للأمر التنفيذي، تفادياً للغرامات التي قد تترتب عليهم في حال المخالفة، والتي تصل إلى 500 دولار والسجن لمدة تناهز الـ90 يوماً لأصحاب المتاجر والشركات المخالفة لقرار الإغلاق الجزئي ابتداء من 23 آذار (مارس) وحتى 13 نيسان (أبريل)، مبدئياً. لكن الأكيد أن الناس خضعوا لنمط الحياة الطارئ، البالغ القساوة، على مضض وتبرم، لوقاية أنفسهم وعائلاتهم من هذا الفيروس الأعمى، الذي لا يفرق بين كبير وصغير، أو بين طيب وشرير، أو بين ملتزم ومستهتر، حتى.. وكأنه أحد مرادفات الموت الذي يدرك الناس ولو كانوا «في بروج مشيدة»!
الجوامع لا تجمع
في الديربورنين، أغلقت عشرات المساجد التي تستقبل المسلمين يومياً خلال أداء فروضهم أو مناسباتهم الاجتماعية، وباتت «الجوامع» كغيرها من المرافق الأخرى، موصدة الأبواب أمام جماعات المصلّين، حتى إشعار آخر.
أحد المقيمين بجوار «مسجد السلام» بديربورن، أعرب عن شعوره بالإحباط جراء التغير العميق الذي أصاب الحي الذي يقطن فيه. وقال: «كنا في السابق، نشكو من ازدحام السيارات المرصوفة على جانبي الطرقات في المنطقة المحيطة بالجامع، خاصة في أيام الجمعة، أو خلال صلاتي المغرب والعشاء في الأيام العادية، أما الآن، فالوضع كما ترى».وأضاف بلهجته اليمنية المميزة: «والله صرنا نشتي (نشتهي) الترافك (الازدحام المروري)، إن شاء الله تمر هذه الأزمة على خير».
انحسار البزنس
أما محطات الوقود التي تفتح على مدار الـ24 ساعة، وعادة ما يتجول عمالها وزبائنها بكل أريحية، حتى في ساعات الليل المتأخرة، بسبب الأمان الذي تتمتع به المنطقة، فقد تغير نظام العمل فيها، ولجأ العمّال إلى نصب الحواجز الزجاجية التي تفصلهم عن الزبائن، توخياً لعدم التماس والاختلاط بقدر الإمكان.
مدير إحدى المحطات بغربي ديربورن، أشار إلى تراجع «البزنس» بشكل خطير، وقال: «حالنا كحال الجميع، نحاول أن نبقي رؤوسنا فوق الماء، كي لا تغرقنا الأزمة»، لافتاً إلى أن إدارة المحطة ألزمت عمالها بلبس القفازات والكمامات، وكذلك تكثيف عمليات تعقيم بعض الأدوات التي يستخدمها الزبائن، مثل ماكينات القهوة وغيرها.
وأضاف: «صحيح أن الإغلاق استثنى محطات الوقود، ولكن تصريف بضاعتنا يعتمد في نهاية المطاف، على حركة الناس وأنشطتهم، وهي الآن في أدنى حدودها»، واستدرك قائلاً: «لقد تراجع إقبال الزبائن على الوقود، الناس لا يغادرون بيوتهم، ولكن بعض البضائع شهدت إقبالاً أكثر، مثل الماء والمشروبات الغازية والمنبهات، لاسيما القهوة، بسبب تخفيض ساعات العمل في مقاهي «ستاربكس» و«تيم هورتينز» التي عادة ما تشهد طوابير طويلة، لكنها الآن تحصر مبيعاتها عبر النافذة (درايف ثرو)».
إقفال مبكر
وفي إحدى بقاليات ديربورن كان بضعة أشخاص يتبضعون حاجياتهم اليومية، محافظين على مسافات كافية فيما بينهم ويتفادون لمس البضائع التي يجسها المتبضعون الآخرون. أحد المتسوقين أبدى تبرمه من سيدة تنتقي بضاعتها من البندورة وتعيد بعضها، وقال متمتماً: «كله متل بعضه»!.
وأشار المحاسب في البقالية إلى انحسار الإقبال في الأيام الأخيرة مقارنة ببدايات أزمة الكورونا، وقال «كنا نقفل عند منتصف الليل، أما الآن فنفتح حتى الساعة الثامنة مساء». وأضاف: «أغلب الناس تمونوا لشهور».
وأحجم عن التعليق حول ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية مكتفياً بزم شفتيه ورفع حاجبيه، وكأنه يقول: «ليس لي دخل في ذلك».
أحد العاملين في البقالية أعرب عن شعوره بالارتياح لتراجع الازدحام، وقال: «مرت علينا أوقات صعبة، من المستحيل إرضاء الجميع»، لافتاً إلى أن بعض الزبائن يوصون على حاجياتهم عبر الهاتف، خاصة كبار السن. وأضاف: «في بعض الأحيان، تتفاجأ بأن المتصلين ليسوا متقدمين في العمر، ولكن.. شو تعمل؟».
ستة أقدام
وفي يوم مشمس من أيام الأسبوع الماضي، كان بضعة أشخاص يتريضون في المنتزه الواقع عند تقاطع شارعي غرينلاند وفورد، وكان بينهم رجل في العقد الخامس من العمر، تفصله عن زوجته عشرات الأمتار. وخلال الحديث معه، أعرب عن شعوره بالضجر من ملازمة المنزل لعدة أيام، وقال إنه «كان يواظب على الذهاب إلى المولات التجارية في فصل الشتاء، حتى «يمشي الدم في عروقه».
وعندما اقتربت زوجته وتأهبت للوقوف، قال لها ممازحاً: «خليك على بعد ستة أقدام».
حتى خدمات التوصيل..
مطاعم ديربورن وأفرانها العربية التي تستقطب زبائن كثيرين من المناطق المجاورة، شهدت أيضاً انحساراً كبيراً في الإقبال على وجباتها ومنتجاتها، واقتصرت خدماتها على تلبية الطلبيات الخارجية فقط.
محاسب في أحد المطاعم العربية الشهيرة في غربي ديربورن، أشار إلى تراجع المبيعات بشكل كبير، وقال: «يقتصر عملنا في هذه الفترة على الاستجابة لاتصالات الزبائن عبر الهاتف»، لافتاً أيضاً إلى التراجع الملحوظ في خدمة «أوبر» لتوصيل الوجبات.
واضطرت بعض المطاعم والمقاهي العربية إلى تعليق خدماتها بالكامل، بعد وقت قصير من تقيدها بتلبية الطلبيات فقط.
.. لم تمض سوى أيام قليلة على إصدار الأمر التنفيذي بإلزام جميع السكان بالبقاء في منازلهم لمدة ثلاثة أسابيع، ومع ذلك فإن الكثيرين يتوجسون من سريانه لمدة أطول، بسبب الوتيرة التصاعدية في عدد الإصابات، لاسيما في مدينة ديترويت المتاخمة لعاصمة العرب الأميركيين، والتي تضم الكثير من أعمالهم التجارية.. فيما يسيطر شعور ثقيل على معظم الناس بأن الحياة.. تحولت إلى سجن كبير!
Leave a Reply