الربيع يعود تركيّاً؟: من حفر جبّاً لأخيه وقع فيه
مثلت تركيا حجر الزاوية في تنفيذ المشاريع القادمة إلى المنطقة العربية ضمن أجندات إقليمية ودولية. وما حصل ويحصل في البلاد العربية منذ انطلاق «ثورات الربيع العربي» كان فيه للدولة التركية دور بالغ الخطورة. الحكومة التركية التي صدّقها القذافي وفتح لها أبواب ليبيا للأستثمار كما إستقبل آلافا من اليد العاملة التركية، طعنته في الظهر بمجرد أن أصبح هدفا آيلا للسقوط، وباعته إلى الذين دفعوا أكثر، من دول ومشائخ «شايلني وشايلك».
الشرطة التركية فـي مواجهة المحتجين بساحة تقسيم فـي إسطنبول |
طبّقت الحكومة التركية بكل إتقان مضامين شعار تشرشل «لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة»، حيث انقلبت تركيا مرة أخرى على حليف وجار فتح لها بوابات بلده لتدخل تركيا السوق السورية وتغنم الكثير ممّا ساعد في انتعاش إقتصادها. لقد كانت ليبيا وسوريا منفذين عربيين فتحا في وجه تركيا بعد أن سُدت في وجهها أبواب الإتحاد الأوروبي، رغم تقديمها كل التنازلات. لكن بمجرد أن تحولت سوريا إلى مشروع للإسقاط وقبضت تركيا الثمن سارعت من جديد إلى طعن جارتها في الظهر أسوة بما فعلت مع ليبيا قبلها وحولت حدودها إلى بوابات مشرعة لدخول السلاح والمسلحين، لتدمير مقدرات دولة جارة ، واشعال أتون حرب ضد شعب من المفترض أنّها ترتبط معه بأواصر التاريخ والدين والجوار، لكن للأسف الشديد غلبت على أمرها عقلية الغنيمة العُصملية التي طالما نكلت بشعوب المنطقة ونهبت ثروات بلدانها.
إعتقد من أشتركوا في مشاريع تفتيت المنطقة، أنّهم بمنأى عمّا يحصل، لكن لهيب النار التي شاركوا في إشعالها بلغ لهيبها الديار التركية التي كانت تعيش حالة من الإحتقان الداخلي نتيجة للدور الذي كانت تلعبه الحكومة التركية في المنطقة والذي كانت ترفضه أغلب الطبقة السياسية والشارع التركي. انطلقت الإحتجاجات في تركيا على خلفية معارضة الناس بناء مركز للتسويق محل حديقة صغيرة في متنزه جيزي في ساحة تقسيم بمدينة اسطنبول ضمن خطط لتغيير معالم المنطقة ببناء عدة مشاريع منها ثكنة عسكرية . وقد وُوجهت الإحتجاجات بعنف شديد من قبل رجال الشرطة الذين قاموا بفض مخيمات المعتصمين داخل المتنزه بالقوة ، ممّا زاد في تعبئة المتظاهرين وتزايد المؤيدين لهم. لقد أصبحت كل هذه الأحداث منذرة بتداعيات خطيرة ، حيث يعتقد مراقبون أنّ ما يجري قد يكون مؤشرات لبداية ربيع تركي، فهل يكتوي أردوغان بالنار التي شارك بإشعالها في الجوار؟
إرحل أردوغان: إنتفاضة «اللصوص والمتطرفين»
المظاهرات العارمة التي إجتاحت أغلب المدن التركية منذ أسبوع لازال شرار لهيبها يمتد إلى مزيد من الأنحاء في تركيا. وقد واصل المتظاهرون المُرابطة في ساحة تقسيم وسط اسطنبول ورفعوا لافتات «أردوغان إرحل». ويجمع أغلب المتابعين للشأن التركي على أنّ إعتراض المحتجين على خطط بناء حديقة لم يكن إلاّ مسوغا لأسباب أعمق وأخطر،وهي رفض السياسة الأردوغانية التي تميزت بالتفرّد والنرجسية السياسية. لقد نسي أردوغان الذي يحكم تركيا منذ سنة 2002 نسبة الخمسين في المئة التي لم تنتخبه وتصرف وكأنه ممثل لحزب بدل التصرف كممثل للأمة التركية بمثقفيها ومتدينيها وعلمانييها.ولتفادي الكارثة يحاول بعض المحيطين بأردوغان أن يُرقّعوا أخطاءه، فقد عقّب الرئيس غل على تصريح لأردوغان في شكل انتقاد مبطن له فقال «الديمقراطية ليست الصناديق فقط» تلميحا لتصريح لأردوغان رد فيه على منتقديه بأنه جاء عبر صندوق الانتخاب وعليهم انتظار انتخابات العام 2014 ، قالها أردوغان بنبرة الواثق من فوزه ممّا أعتبر استفزازا للمعارضة.
كما أعتذر نائب رئيس الحكومة بولند أرينج للجرحى والمصابين نتيجة السياسة الأمنية العنيفة التي ووجهت بها المظاهرات السلمية وأقرّ «بشرعية» مطالب انصار البيئة، الذين يقفون وراء حركة الغضب، ودعا المحتجين الى «وضع حد لتحركهم»، كما أعرب عن أسفه للإستخدام المفرط للغاز المسيل للدموع من قبل الشرطة «الذي دفع بالأمور إلى الخروج عن السيطرة».
ويرى مراقبون بأن غضب المتظاهرين لم يعد مُنصباً على خطط الحكومة للبناء في الساحة الخضراء في وسط اسطنبول، بل تجاوز ذلك ليعبر عن رفضه للسياسة السائدة والتي يرى فيها الشباب عودة إلى دكتاتورية العسكر، حيث صرح أحد المتظاهرين للإعلام «حكومة أردوغان فاشية… إنه يعتقد أنه سلطان، عليه الكف عن ذلك فهو مجرد رئيس وزراء». كما وصف كمال كليتشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجُمهوريِّ أكبر الأحزاب المعارضة التركية في تصريح له الاثنين للإعلام أردوغان بـ«الدكتاتور». لم يدرك أردوغان بعد أنّه يحكم شعبا عاش لعشرات السنين في ظل ثقافة سياسية علمانية وأنّ من المبكر التعويل على تغييرات عميقة في بنية الذهنية التركية لذلك تواجه عملية نقله إلى الضفة المقابلة صعوبات كأداء أحد وجوهها مظاهرات جزء من الشارع الرافض لها، وقد أيقن نائب أردوغان الأمر فصرح لطمأنة المخالفين «نحترم أنماط الحياة المختلفة لكل الأتراك»، وهذا ما يعني أنّ الحكومة أدركت أنّ الإحتجاجات ليست من أجل تحويل حديقة إلى بناء، بل الأمر يتعدى ذلك إلى رفض لسياسات الحكومة الثقافية والإجتماعية والتي يعتبرها البعض تمسّ بثوابت مضمون الدولة المدنية.
يبدو أنّ أردوغان الحالم بدور السلطان لم يعِ بعد خطورة الموقف الذي تجتازه تركيا، رغم محاولات من حوله كبح جماح اندفاعه، لكن يبدو أنّهم لم يفلحوا في ذلك. فبعد كيله التهم والشتائم للمعارضة وللمحتجّين المطالبين برحيله في الساحات ووصفهم بالمخربين واللصوص والمتطرفين، رغم أنّهم لم يطلقوا نارا ولم يرفعوا سلاحا كما تفعل جماعات مدعومة منه في دول عربية يسميهم هو ثوارا. وقد أدرك نائب أردوغان أنّ الأمور قد تخرج عن السيطرة خاصة بعد وصف أردوغان لما يجري من إحتجاجات باللصوصية والتخريب، لذلك واصل نائبه خطابه اللين لتهدئة النفوس فقال «لا يحق لنا أن نتجاهل الشعب ولا أن نتبجح بذلك، الديموقراطيات لا توجد من دون معارضة»، وأضاف بأنه «أخذ الدرس» من هذه الأحداث.
رفض أردوغان أن يُسمى ما يجري في تركيا ريبعا وقال «الربيع هو ما يعيشه الأترك في ظل الحكم الحالي وما يدعو اليه المحتجون في تركيا هو تحويله الى خريف تركي لكنهم لن ينجحوا». ترك أردوغان بلده الذي تعصف به الإضطرابات ليسافر إلى بلاد المغرب العربي في زيارات عمل، كان من الممكن أن يؤجلها في ظل ظروف تركيا الحالية. لكن أردوغان العنيد أبى إلاّ إظهار عدم قلقه على الوضع مظهراً وأنّ الأمور تحت السيطرة، رغم أنّ الأخبار القادمة من هناك تتحدث عن تعاظم مظاهر الإحتجاح في أغلب مدن تركيا وقد تبنت أكبر منظمتين نقابيتين مطالب المتظاهرين وتضامنتا معهم. وحسب مصادر قرر إتحاد نقابات القطاع العام، كبرى النقابات المركزية في تركيا، إضراباً من يومين للتنديد بالسياسة العنيفة التي مارستها الدولة.
قطاع واسع من الشرائح السياسية ومنظمات حقوقية وكتل برلمانية وأحزاب وطنية في المغرب العربي قابلت الزيارة الأردوغانية بالتنديد بسياسته القمعية ضد المحتجين وبمقاطعة الزيارة. كما نددت منظمات حقوقية وانسانية في الدول الغربية بالممارسات العنيفة والقمعية لرجال الشرطة تجاه الإحتجاجات السلمية في تركيا ونقلت مصادر عن متحدثة بإسم المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نافي بيلاي طلبها من الحكومة التركية أن تقوم بفتح تحقيق «سريع وشامل ومستقل وغير منحاز.. حول عناصرالشرطة الذين انتهكوا القانون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان».
أما الجهات الرسمية الغربية فرغم سياسة الحذر ممّا يحدث بتركيا نتيجة كون حكومة أردوغان هي جزء من محور تابع لها، لم تستطع أمام سقوط ثلاثة قتلى وما يقرب من ألفي جريح وقرابة ألف موقوف أن تتجاهل ما يحصل. وقد إختلفت البيانات المحتشمة من «التعبير عن القلق» و«دعوة السلطات إلى ضبط النفس» و«السماح بالمظاهرات السلمية» و«دعوة الجميع إلى نبذ العنف». كما خرج كثيرمن الأتراك في مسيرات إحتجاجية في مدن ألمانية وفرنسية وفي نيويورك كما نظّموا مسيرة أمام مقر الإتحاد الأوروبي ببروكسل ببلجيكا. وعبرت أغلب الصحف الغربية عن خطورة ما يحدث بسبب قرب تركيا من أوروبا ولكونها حليف للغرب إضافة إلى دورها الإقليمي في المنطقة العربية، ولكن جميعها لم تذهب بعيدا في تأييد المحتجين كما فعلت مع إحتجاجات المنطقة العربية.
حاكم مدني فـي جلباب سلطان: نهاية حلم بونابرتي
ما يجري في تركيا الآن من تصاعد للإحتجاجات مرشح للتطور سلبيا خاصة بعد تصريحات أردوغان في تونس والتي أكد فيها على استمراره في إنجاز المشاريع التي خطط لها والتي كانت الشرارة التي سببت إندلاع المظاهرات في تركيا، ومن بينها إنشاء مسجد وإعادة بناء ثكنة عسكرية من العهد العثماني في ساحة تقسيم. وهي كما قلنا مسوّغات لأسباب أهمّ وهي الرفض لسياسات الحكومة التركية ولإختيارات أردوغان الذي يبدو من الأحداث أنّه كمن أراد بيع الماء في حارة السقائين، السوق كبير والبيّاعين «على قفا مين يشيل» فجميعهم في الحقيقة أدوات تنفيذية ضمن أجندات اقليمية ودولية.
كان مشروع حزب العدالة والتنمية بعودة تركيا إلى عمقها الإستراتيجي في بداياته مشروعا واعداً، خاصة بعد أن إختارت تركيا أن تبني علاقات دافئة مع جوارها بسياسة «صفر مشاكل» ومعناه إختيارها أن لا تكون طرفا في نزاعات المنطقة المعروفة بصراعاتها المزمنة. وقد إستطاعت الحكومة التركية بهذا الأسلوب أن تبني علاقات ودية مع مختلف الدول العربية مشرقها ومغربها، إستثمرتها بشراكات وإستثمارات إقتصادية هامّة ، مكنتها من ضخ دماء جديدة في الإقتصاد التركي، الذي كان مهترئا نتيجة سياسة التركيز على شراكات غير متكافئة مع أوروبا. كل الأمور كانت جيّدة إلى حين إندلاع ثورات الربيع العربي حينها بدأت الثوابت التركية تهتز وبدأ مبدأ الحياد يُخرق عبر الإنجرار نحو محاور سياسية وعسكرية، ما يعني دخول تركيا حلبة الصراع بما فيه من تحالفات وعداوات. ثم توغلت السياسة التركية في قلب الأحداث حتى صارت طرفا ضالعا في حرب إقليمية ومحرّكا لها وبذلك إحترق مبدأ «صفر مشاكل» مع الخارج ودخل إستقرار تركيا مرحلة الخطر.
تساؤلات كثيرة أفرزها التحول الجوهري في الموقف والسياسة التركية تجاه دول المنطقة، أبرزها: ما الذي دفع بدولة مستقرة ومستفيدة إقتصاديا من علاقاتها الودية مع جوارها أن تضحي بكل ذلك وتنخرط في حروب تدميرية وغبية؟ البعض ردّ ذلك إلى إلتزامات تركيا كعضو في حلف الناتو،أمّأ البعض الآخر فردّ ذلك إلى الموقف المبدئي لتركيا بإنحيازها إلى ثورات الشعوب وتطلعاتها للديمقراطية، وذهب آخرون إلى أنّ السبب وراء ذلك المكاسب والغنيمة. لنتابع هذه المقولات كي نعلم أيّها أقرب إلى الواقع. تبدو فرضية عضوية حلف الناتو معقولة نوعا ما لكن لا نعتقد أنّ هذه العضوية هي التي أجبرت تركيا على أن تكون طرفا فعّالا في الحرب بسوريا ، وقد يرد البعض هذا الإنخراط إلى رغبة تركيا في المساعدة على قيام دولة ديمقراطية بجوارها، وتبدو هذه الفرضية متهافتة لأنّ المحور الإقليمي الذي تنتمي إليه تركيا أغلبه من دول إستبدادية لم تعرف الديمقراطية والدساتير والإنتخابات إلى بلدانهم سبيلا. وهذا يعني أنّ الدفاع عن الديمقراطية لم يكن هدفا تركيا. بقيت فرضية الغنيمة والمكاسب وهي ما نعتقد أنّها وراء دخول تركيا الحلف المناويء لسوريا.
لقد كان الحلم الأردوغاني أن يقود الشرق في نظام إقليمي جديد مواليا له مذهبيا وممولا له ماليا، ومعنى ذلك أن تستعيد تركيا أمجادها العثمانية بقيادة رئيس حكومة في عباءة سلطان. إنّه إستلهام أردوغاني للبونابرتية التي كان فيها نابليون بونابرت حاكما للدولة الفرنسية وامبراطورا للغرب، وهو ما لم يتوفر في التجربة الأردوغانية لذلك فشل مشروعها للأسباب التالية: أولا بونابرت كان الآمر الناهي في النظام الذي كان يقوده أمّا أردوغان فكان أداة من مجموعات أدوات في مشاريع ينتهوا بإنتهائها. ثانيا بونابرت كان حاكما بأمره في حين يستمد اردوغان شرعيته من صندوق الإنتخاب ويتحرك بموافقة من حلف. ثالثا بونابرت كان قائدا عسكريا يغزو ويستحوذ على الموارد وهو صاحب الغنائم أمّا أردوغان فحاكم يُنفّذ ليقبض ويقتسم الغنائم مع غيره.
تبدو شخصية أردوغان النرجسية ممزقة بين رجل معاصر بأحلام قروسطية فلا هو هنا ولا هو هناك، إبتدأت أحلامه بطموحات سلطان وقد ينتهي به الأمر إلى ما دون رتبة شاويش.
دولة الصفر مشاكل غدرت بعد أن عاهدت فإنقلب السحر على الساحر وذاقت تركيا من نفس الكأس، فمن كان في جنة ولم يشكر خرج منها ولم يشعر،كذلك هي الأيام دول وسبحانه مُبدّل الأحوال.
Leave a Reply