«الفوضى الخلاقة» تطلّ على لبنان من جديد
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
في العام الثالث من عهد الرئيس العماد ميشال عون، خرجت غالبية الشعب «العظيم» إلى الشارع والساحات، في الكثير من المناطق، رافعين مطالب بإسقاط النظام السياسي وكل أركان السلطة. وبعد أن حقق الحراك مطلب استقالة الحكومة، لا يبدو أن الشارع سيستكين قريباً دون محاولة إسقاط بقية الزعامات السياسية في لبنان بمن فيهم عون، لاسيما وأن أنصار سعد الحريري لجأوا إلى الشوارع مباشرةً بعد إعلان استقالته.
منتصف الولاية
التظاهرات، التي أطلق عليها البعض اسم «ثورة»، والبعض الآخر، «انتفاضة» أو «حراك شعبي» تزامنت مع بداية النصف الثاني من عهد الرئيس عون، الذي وعد بتحقيق «الإصلاح والتغيير»، لكنه لم يتمكّن من ذلك، بسبب ما أكّد عليه في كلمته إلى اللبنانيين، وهي الطائفية التي هي علّة لبنان التي كانت وراء العديد من أزماته وحروبه.
ويدعو اتفاق الطائف إلى تعديل المادة 95 من الدستور التي اعتبرت الطائفية إجراءً مرحلياً لتوزيع السلطات والوظائف على أساس طائفي، دون ذكر لطائفة كل سلطة، بل أن العُرف هو الذي وزّع المناصب على الطوائف والمذاهب، بما يسمى «الطائفية السياسية»، التي أمّنت المحاصصات لزعماء الطوائف، وحقّقت مغانم ومكاسب لهم من خلال المؤسسات التي تحوّلت إلى محميات سياسية وطائفية، فتفشى الفساد في البلاد رغم بعض المحاولات لمكافحته أو الحد منه في عهود سابقة، لكن بعض تلك الجهود نجح جزئياً وبعضها الآخر فشل جذرياً ووصف بأنه «مكايدة سياسية» فتوقف عند مسؤولين معينين دون آخرين فاسدين. أما في عهد الرئيس عون، فلم تجر عمليات تطهير جدية للمؤسسات من الفساد، سواء كانت في مجلس النواب أو الحكومة أو القضاء والإدارة إلخ… باستثناء بعض الإجراءات التأديبية ضد قضاة أو موظفين، وسط تقصير أو انكفاء لهيئات الرقابة، من التفتيش المركزي، إلى ديوان المحاسبة وإدارة المناقصات، كما لم يقم القضاء بواجباته، لأنه مسيّس وغير مستقل، وهو ما أفلت الفاسدين من الحساب، لأن السياسيين والأحزاب، كانوا يتدخلون لحمايتهم.
الحراك الشعبي
وأمام استشراء الفساد والمحسوبية، وتعطّل دور القضاء والهيئات الرقابية، وعقد صفقات مشبوهة في مشاريع حكومية، كان يتم التداول بأسماء فاسدين من وزراء ونواب وسياسيين ومسؤولين في أحزاب، إضافة إلى رجال مال وأعمال، وهو ما حرض المواطنين على التحرك في وجه الفاسدين، وقد خاب ظن الكثيرين منهم بعهد الرئيس عون الذي تعهد بالعمل على قطع دابر الفساد، لكن وعوده تبخّرت في ظل التركيبة السياسية الحاكمة في لبنان، وها هو يدخل عامه الرابع في الرئاسة بمواجهة حراك شعبي، لم تظهر له قيادة بعد، سوى ما تمّ الإعلان عنه وهو «هيئة تنسيق الثورة»، التي ضمت نحو 54 مجموعة، موزّعة على انتماءات سياسية وحزبية ومناطقية، ومطالب متعددة، مما منع عليها أن تصيغ برنامجاً، إلا من دعوة إلى استقالة الحكومة، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما رفضه بداية، تحالف السلطة، المكوّن من «حزب الله» وحركة «أمل» و«التيار الوطني الحر» و«تيار المستقبل»، وإلى حد ما –ولو بخجل– رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط الذي اختار أن يقف على رأس التلة منتظراً لمن ستميل الدفة، وقد نصحه الرئيس نبيه برّي، بألا يستقيل وزراؤه من الحكومة، غير أن تغريداته لا تزال تبث مواقف متناقضة.
الوضع المأزوم
لم يتجاوب «الحراك الشعبي» مع دعوة رئيس الجمهورية إلى الحوار ولا مع «الورقة الإصلاحية» التي قدمها رئيس الحكومة قبل استقالته، رغم دعمها من الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي اعتبرها انتصاراً للحراك داعياً إلى البناء على إيجابياتها والتقدم نحو الحل السياسي.
رفض الحراك ومن يحركه، هذه المخارج، وأصرّ على استقالة الحكومة رغم التخوف من دخول نفق المجهول والفوضى في ظل إصرار «الثوار» على قطع الطرقات الذي أثار انقساماً شعبياً سمح لمناصرين لـ«حزب الله» وحركة «أمل» بالتعدي على المتظاهرين لفتح الطرقات وغزو بعض الساحات بالقوة لاسيما عند جسر فؤاد شهاب (الرينغ) وفي رياض الصلح والشهداء، وذلك بعد أن تمّ فتح الطرقات في الضاحية الجنوبية عند طريق المطار والمشرفية وفي الجنوب لاسيما في النبطية وصور، وفي بعلبك–الهرمل، بحيث تمّ فض الاعتصامات بالعصي والضرب دون إراقة دماء، وذلك بعد بتسريب معلومات عن توجه الرئيس سعد الحريري للاستقالة يوم الثلاثاء الماضي، وهو خطوة لم يكن يرغب بها «حزب الله» بحسب السيد نصرالله الذي حذر من دخول لبنان في نفق المجهول الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية.
وفي الواقع هناك الكثير مما يبرر هواجس «حزب الله» من نوايا حرف الحراك الشعبي للتصويب عليه وإشغاله داخلياً لاسيما بعدما ظهرت شعارات وهتافات ضدها، ومنها «إرهابي إرهابي.. حزب الله إرهابي»، والتي ترددت في عدة اعتصامات تتواجد فيها «القوات اللبنانية»، إضافة إلى ارتباط العديد من منظمات المجتمع المدني الناشطة في الحراك، بالغرب.
«حزب الله» يرى أن خصومه الإقليميين والدوليين المنخرطين في دعم الحراك، يريدون إخراجه من الحكومة وهو المصنف «إرهابياً» من قبلهم، وقد طالت العقوبات مؤخراً، نواباً منه لاسيما رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد والنائب أمين شري، ورئيس جهاز الأمن والارتباط في الحزب وفيق صفا.
ويرى الحزب أيضاً أن تلك الجهات هي التي دفعت الحريري إلى الاستقالة، وهو ما سعت إليه السعودية بوقاحة قبل نحو عامين عندما استدعاه الأمير محمد بن سلمان إلى الرياض وأجبره على تقديم استقالته في شريط مصوّر تحت الإقامة الجبرية، ففعل، إلا أن الرئيس عون أنقذه برفض الاستقالة، بدعم من الرئيس بري و«حزب الله» وجنبلاط، محافظاً بذلك على «التسوية الرئاسية»، التي أوصلت العماد عون إلى الرئاسة، وباتت اليوم في مهب الريح.
استقالة الحريري
على الأرجح، الحريري لن يعود إلى حكومة فيها وزراء لـ«حزب الله»، هذا أمر شبه مسلم به، ولكن التعويل على تشكيل حكومة غير سياسية أمر دونه عقبات لا يمكن تجاهلها، كما لا يمكن تجاهل تمثيل «حزب الله» في أي حكومة سياسية تقليدية. وأبرز تلك العقبات وأكثرها وضوحاً، هي أن الوزير بحسب «اتفاق الطائف»، منصب سياسي بحت.
لذلك، يدخل لبنان مع استقالة الحريري، نفقاً يؤدي إلى الفراغ والفوضى، ومن غير المستبعد أن ينتقل إلى مرحلة «السورنة» كما حصل في سوريا حيث تم استهداف الدولة والنظام، في مسعى معروف الأهداف لضرب محور المقاومة، و«حزب الله» في لبنان، هو في صلب هذا المحور، وبالتالي فإن الحصار المالي وتأجيج الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية، قد يشتد لإبقاء الناس في الشارع، وقد بدأ سعر الليرة يرتفع أمام الدولار، في ظل تشكيك بدور مصرف لبنان في افتعال هذه الأزمة ناهيك عن أزمات البنزين والخبز التي تمكنت الحكومة من احتوائهما مؤقتاً.
فلبنان الذي كان يسعى لإعادة العلاقات الطبيعية مع سوريا، يتحوّل اليوم إلى ساحة فوضى، كان دائماً مهدداً بها، منذ أن طرح الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن مشروعه للشرق الأوسط الذي يقوم على «الفوضى الخلاقة».
ومع استقالة الحكومة ومحاولات الجيش لفتح الطرقات، يبقى السؤال هل سيوافق «الحراك» على تشكيل حكومة جديدة بعد أن وضع الحريري التسوية الرئاسية في مهب الريح مخاطراً بعدم العودة إلى السراي؟ فـ«التيار الوطني الحر» يرى أن الحريري غدر به لعدم التنسيق معه قبل تقديم استقالته، وقد يتجه العونيون إلى تسمية شخصية سنية أخرى بعد التنسيق مع حلفائه وتحديداً «حزب الله» الذي لم ينظر برضى عن الاستقالة التي ستحول الحكومة إلى تصريف الأعمال، مما يعني أنه غير قادرة على إقرار موازنة 2020 التي لبنان بأمس الحاجة إليها لإنقاذه من الانهيار عبر تنفيذ الإصلاحات وضخ الاستثمارات الموعودة من مؤتمر «سيدر» الذي ينظر إليه على أنه يدعم الحريري ويبرر عودته سريعاً إلى السلطة.
Leave a Reply