مارست واشنطن في معظم النصف الأخير من القرن الماضي (أي في فترة الحرب الباردة) سياسة قامت على ثلاثة محاور: محور العدوّ (أي الاتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو)، محور الأصدقاء (أوروبا الغربية ودول حليفة أخرى)، ثمّ محور الخصوم (أي الدول غير المصنّفة نهائياً في أحد المعسكرين، كالصين وعدد من دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية).
وحرصت واشنطن في هذه السياسة على «عزل العدوّ» وعلى «تعميق الصداقة مع الصديق» وعلى «تحييد الخصم قدر المستطاع». وعندما انهار «العدوّ» أصبح مطلوباً أميركياً تبعية «الصديق» دون اعتراض، وفرز الخصوم بين أعداء جدد أو أتباع جدد.
أميركا لم تصنع الحرب العالمية الثانية، لكنّها استفادت من تداعياتها لكي تُضعف المنافسين الأوروبيين الذين تربّعوا على عرش زعامة العالم منذ الثورة الصناعية في أوروبا.
كما أنها لم تخطّط للعدوان الثلاثي (البريطاني/الفرنسي/الإسرائيلي) على مصر عام 1956، لكنّها استفادت من ثورة مصر عبد الناصر والمنطقة العربية على البريطانيين والفرنسيين من أجل وراثة دورهم ونفوذهم في منطقة الشرق الأوسط.
كذلك، لم تشعل نار الخلافات العقائدية والسياسية بين روسيا والصين، خلال فترة الحرب الباردة مع المعسكر الشيوعي، لكنّها استفادت من الصراعات الداخلية في الدائرة الشيوعية من أجل عزل الاتحاد السوفييتي وانشغاله في «حروب عقائدية داخلية».
طبعاً هناك عدّة حروب وصراعات بدأتها أميركا أو خطّطت لبعض تفاصيلها لأجل توسيع دائرة هيمنتها أو لتحجيم نفوذ المنافسين لها. بعض هذه الحروب سارت في اتّجاه الهدف الأميركي، وبعضها الآخر مشى في الاتّجاه المعاكس لرغبات واشنطن، لكن الحروب كرّ وفرّ، وقد فشلت أميركا في أماكن عديدة كان أبرزها في الميدان العسكري خسارتها لحرب فيتنام، وكان أهمّها في الميدان السياسي خسارتها لموقع النفوذ في إيران، وعجزها عن حماية نظام الشاه من طوفان الثورة الشعبية الإيرانية.
لكنّ واشنطن «الفاشلة» في إيران بنهاية السبعينات، نجحت في الفترة التاريخية نفسها من بدء حرب استنزاف طويلة لمنافسها السوفييتي، من خلال إطلاق ظاهرة «المجاهدين الأفغان» ضدّ الحكم الشيوعي في كابول المدعوم سوفييتياً، وأيضاً نجحت في تشجيع العراق وإيران على إشعال حرب مدمّرة للبلدين معاً ولثروات منطقة الخليج العربي، ثمّ نجحت في توظيف أخطر صراع عربي/عربي في التاريخ المعاصر، والذي نتج عن قيام حكم العراق باحتلال الكويت وتشريع أبواب المنطقة للتدخّل الأجنبي.
هكذا هو تاريخ الإمبراطوريات والقوى الكبرى في العالم: صناعة أحداث للاستفادة من نتائجها، أو توظيف أحداث قائمة لخدمة مصالح القوّة الكبرى المهيمنة. وهكذا هو أيضاً تاريخ المنطقة العربية مع القوى الكبرى. فأميركا ليست استثناءً في سلوك الأمبراطوريات العظمى، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة والشعارات العقائدية والمراحل التاريخية. والمشكلة ليست في وجود تخطيط أو تآمر أجنبي بل في عدم توقّعه أو التحسّب له ولأساليبه وأهدافه. وهي مشكلة «الداخل» الذي يوجِد الأرض الخصبة لزراعة تآمر «الخارج» ثمّ يترك لهذا الطرف الخارجي أن يحصد النتائج!.
وتميّزَ انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، التي امتدّت إلى منتصف القرن العشرين، بأنّ الاستعمار الأوروبي كان يُخلي البلدان التي كانت تخضع لهيمنته، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، بعد أن يوجِد فيها عناصر صراعات تسمح له بالتدخّل مستقبلاً، وتضمن إضعاف هذه البلدان التي قاومت الاستعمار وتحرّرت منه. فقد ظهرت دول وحكومات خلال القرن الماضي إمّا تتصارع فيما بينها على الحدود، أو في داخلها على الحكم بين «أقليّات» و«أكثريّات»، وفي الحالتين، تضطرّ هذه الدول النامية الحديثة للاستعانة مجدّداً بالقوى الغربية لحلّ مشاكلها أو لدعم طرفٍ داخلي ضدّ طرفٍ آخر. وجدنا ذلك يحدث أيضاً في صراعات الحدود بين عدّة دولٍ عربية وإفريقية. كما حصلت عدّة حروب أهلية وأزمات أمنية وسياسية في بلدانٍ أخلاها المستعمر الأوروبي بعد أن فرض فيها أنظمة حكم مضمونة الولاء له، لكنّها لا تُعبّر عن شعوبها، وتُمثّل حالةً طائفية أو إثنية فئوية لا ترضى عنها غالبية الشعب.
متغيّراتٌ دولية كثيرة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال العقود الماضية التي تبعت انتهاء الحقبة الأوروبية الاستعمارية، ومنها وراثة الولايات المتحدة للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وظهور معسكريْ «الشرق الشيوعي» بقيادة روسيا و«الغرب الرأسمالي» بزعامة أميركا. لكن انتهاء «الحرب الباردة» بين المعسكرين، مع غروب القرن العشرين، لم تكن نهايةً لنهج التنافس الدولي على العالم وثرواته ومواقعه الجغرافية الهامّة، كما هو موقع الأمَّة العربية وثرواتها الهائلة.
إنّ صُنّاع القرار الأميركي يأملون الآن كثيراً في تحقيق أهداف السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط»، من خلال تفاعلات الصراعات المحلّية والإقليمية الدائرة بالمنطقة، ودون حاجةٍ لتورّطٍ عسكريٍّ أميركي كبير في أيٍّ من بلدانها!.
فبعد احتلال العراق في العام 2003، أطلقت إدارة بوش الابن ثلاثة شعارات، فشل الأول منها وتعثّر الثاني وبقي الشعار الثالث رهناً بما يحدث من صراعات ومتغيّرات عربية. الشعار الأول كان عقب غزو العراق مباشرةً حينما تحدّث أكثر من مسؤول أميركي عن أنّ العراق سيكون «نموذجاً للديمقراطية» في الشرق الأوسط، وأنّ دولاً عديدة في المنطقة ستحذو حذوه. الشعار الثاني، كان عن «الشرق الأوسط الكبير» الجديد الذي سيخرج إلى الوجود بعد تفاعلات الحرب في العراق، وبعد حروب إسرائيل في لبنان وغزّة في عام 2006، والتي دعمتها بشدّة إدارة بوش الابن.
لكن الممارسة الأميركية في العراق كانت «نموذجاً» للفشل والكذب والخداع في السياسة الأميركية، ولم تتدحرج أنظمة المنطقة خلف «الدومينو العراقي»، كما توهَّم وراهَنَ «المحافظون الجدد»، وكذلك كان مصير أحد أهداف شعار «الشرق الأوسط الكبير» في القضاء على ظواهر المقاومة ضدّ إسرائيل، بعد حربيْ صيف عام 2006 في لبنان ونهاية عام 2008 في غزّة.
أمّا الشعار الثالث، الذي أطلقته الوزيرة كونداليزا رايس خلال الفترة الثانية من حكم بوش الابن، فكان عن «الفوضى الخلّاقة»، والتي كانت المراهنة على حدوثها في بلدان الشرق الأوسط من خلال تفاعلات الأزمات الداخلية في دول المنطقة. ولعلّ ما حدث ويحدث في السنوات الماضية داخل عدّة بلدانٍ عربية يؤكّد أنّ شعار «الفوضى الخلّاقة» لم ينتهِ مع نهاية حكم «المحافظين الجدد»، وبأنّ المراهنات استمرت قائمة على هذا الشعار، رغم التغييرات التي حدثت في «البيت الأبيض».
الوقائع والتجارب كلّها تؤكّد وجود أهداف ومصالح ومؤسّسات أميركية تصنع القرار الأميركي، وهي محصّنة ضدّ تأثيرات ما يحدث في الحياة السياسية الأميركية من تحوّلات وصراعات انتخابية محلّية.
وستكون نهاية هذا العام الجاري، فترة حصاد سنوات الفوضى العربية التي بدأت في العام 2011 بشعار: «الشعب يريد إسقاط النظام»، لكن دون حسم للخطّ الفاصل بين «إسقاط النظام» و«عدم سقوط الوطن». فصحيح أنّ الانتفاضات العربية بدأت بإرادة شعوبٍ مقهورة، لكنّ معظمها انحرف إلى مسار أجندات إقليمية ودولية؛ بعضها استهدف تقسيم الأوطان وتدويل أزماتها الداخلية، وبعضها الآخر يراهن الآن على تثبيت النفوذ والمصالح في «شرق أوسطي جديد» لم تنجح واشنطن في تحقيقه بمفردها، فاختارت التوافق مع موسكو على رسم التسويات رغم استمرار الخلافات على مقدار الحصص!.
في الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي «الديمقراطي»، لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوًى في الخارج. فهذه هي غايات الحروب الأهلية العربية المدعومة بتدخّلٍ أجنبي متعدّد الأطراف في أزمات الأمّة العربية، تلك الأمّة التي بدأت كياناتها الوطنية الكبرى تتصدّع واحدةً تِلوَ الأخرى، وكلُّ من في الأمّة، بما لديهم من هموم محلية، منشغلون ومتصارعون!.
العرب الآن إلى مصيرٍ مجهول، وهناك مخاوف من أن تشهد المنطقة من جديد ما شهدته منذ مائة عام؛ من رسم خرائط جديدة، ومن مراهنات على الخارج، ومن حصد صهيوني لهذه المتغيّرات، بينما تشهد أوطانٌ في الأمّة العربية الآن حروباً أهلية، في ظلّ تشويهٍ لحقائق الصراعات، ولعنفٍ تشارك فيه قوًى حاكمة ومعارضة!.
Leave a Reply