قبل قرن سقطت «الخلافة الإسلامية» التي كانت تمثلها «السلطنة العثمانية» في حرب عالمية سُميت أولى، فتفكّكت لتتقاسمها الدول التي انتصرت بالحرب، ومن ثمَّ لتتّجه تركيا مع مؤسسها كمال أتاتورك نحو جمهورية أقرّ دستورها بفصل الدين عن الدولة، واتّجهت غرباً نحو أوروبا التي بدأت الدخول في عصر التنوير مع الثورة الفرنسية التي أرست العدالة والمساواة والإخاء.
وبعد مئة عام على سقوط «الخلافة الإسلامية» بدأ مَن يعمل للعودة إليها، ومن تركيا تحديداً التي تمكّن «الإخوان المسلمون» فيها عبر حزب «العدالة والتنمية» من الوصول الى الحكم بصفقة مع أميركا، تحت عنوان، وصول «الإسلام المعتدل» الى الحكم بعد أحداث 11 أيلول 2001، التي هزّت أميركا بضرب برجي نيويورك ومقرات عسكرية وسياسية، نفّذها إنتحاريون ينتمون الى تنظيم «القاعدة» العالمي صاحب «الفكر الإسلامي الجهادي»، وحاول الأميركيون استبداله بـ«فكر إسلامي معتدل»، رأوا أن يقيموا نموذجاً لحكمه في تركيا، في العام 2002 عبر انتخابات، مع رفض المؤسسة العسكرية لوصول حزب إسلامي يتناقض مع الدستور العلماني، إلا أن الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش الإبن، قرّرت أن تهادن «الإسلام السياسي»، بعد أن أسقطت حكمه الذي مثّلته طالبان في أفغانستان، وكان نموذجاً للظلامية والإنغلاق.
فالتجربة الإسلامية التركية، أعادت الى السلاطين الجدد فكرة استعادة «العثمانية» وبعث الخلافة الإسلامية، وتقدم بها رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان مع وزير خارجيته أحمد داوود أوغلو صاحب نظرية «صفر مشاكل» في كتابه العمق الإستراتيجي، وتوجّه أردوغان نحو الشرق، وحمل لواء القضية الفلسطينية مع وصول حركة «حماس» الى السلطة في قطاع غزة، وهي أحد فروع «الإخوان المسلمين»، وهذا ما أعطى تركيا مساحة واسعة لتتقرّب من العالم العربي، وكانت سوريا بوابتها التي تودّد القادة الأتراك لرئيسها بشار الأسد، لكنهم كانوا يتحضرون لوصول «الإخوان المسلمين» في سوريا الى الحكم، وهم الذين بينهم وبين النظام السوري تاريخ من الدم، إذ سعوا في مرات عديدة لقلب نظام الحكم السوري وزعزعته، لكنهم فشلوا، وكانت أحداث حماه في العام 1982 الأكثر دموية في الصراع بين النظام و«الإخوان» الذين اتّكأوا الى زملائهم في تركيا لإيصالهم الى السلطة، وهذا ما حصل مع بدء ما سمّي بـ«الثورات العربية» التي ركب «الإخوان المسلمون» موجتها، ليصلوا الى الحكم في مصر وتونس وليبيا ويتقدّموا في اليمن ويحكموا بالتفاهم في المغرب مع ملكها، وقد حاول المسؤولون الأتراك أن يضغطوا على الرئيس الأسد لتقديم تنازلات، ويعطي الحكومة «للإخوان المسلمين» مع صلاحيات يتخلى عنها لكنه رفض، وهو ما طُرح في «جنيف 1» بما سمّي هيئة إنتقالية، وأعيد طرحه في «جنيف 2»، وهذا ما لم يقبله الوفد السوري المفاوض في جنيف بعد أن طرحته المعارضة السورية في تفسيرها لتطبيق ما صدر عن «جنيف 1»، وهو غير ما فسّره النظام السوري الذي دعا الى وقف إطلاق نار، من خلال توقيف التمويل والتسليح للجماعات الإرهابية، وهو الوصف الذي اطلقته عليها العديد من الدول وعلى رأسها أميركا.
فمشروع بعث «الخلافة الإسلامية» الذي تقدّمت به تركيا، سبقه إليها تنظيم «القاعدة» الذي أسّس له خلايا نائمة ومجموعات بدأت تظهر في الدول التي سقطت فيها الأنظمة أو تشهد صراعات داخلية، إذ بات وجوده على كل خارطة العالم، وتمكّن من أن يفرض سيطرته على مناطق من هذه الدول، ويقيم حكمه فيها، ودخل العالم في حرب يخوضها «الإسلام الجهادي» ضد «المجتمعات الكافرة والجاهلة»، سواء كانت إسلامية أو غربية تقيم أنظمة ديمقراطية، إذ أن مشهد الصراع يمتد على كل مساحة العالم من أفريقيا الى آسيا وأوروبا وصولاً الى أميركا وأستراليا، حيث لا توجد دولة في العالم، لم يقم «الإسلام الجهادي» الذي يمثّله تنظيم «القاعدة» بعملية إرهابية إذ قرّر أن يغزو العالم لإقامة «حكم الله» من خلال «الشريعة الإسلامية» وفق مفهومه للاسلام وفتاويه البعيدة عن الرسالة المحمدية السمحاء، ويستخدم في أسلوبه العنف، وهو ما وضع العالم أمام ما أسماه «الحرب على الإرهاب والتكفيريين»، حيث تعيش الكرة الأرضية صراعاً أو حرباً، تخوضها «القاعدة» بإسم «الحرب على الكفار»، وفي مواجهة هذه الحرب، تخوض دول عديدة في العالم حرباً على ما تسمّيه «الإرهاب»، والتي تأخذ طابعاً عالمياً تعيد بالذاكرة الى زمن الحرب العالمية الأولى التي خيضت من قبل أوروبا ضد «السلطنة العثمانية» وإسقاط «الخلافة الإسلامية».
وما يجري في العالم العربي ولبنان منه، هو هذه الحرب التي تخوضها مجتمعات عربية بمواجهة القوى التكفيرية، بعد أن انكشفت أهداف «الثورات العربية» التي كانت نواياها نبيلة في الإصلاح والحرية والعدالة الإجتماعية، إلاّ أن «الإسلام السياسي» نقلها الى الجاهلية بغطاء غربي، فاصطدم في الدول التي تمكّن من الوصول الى السلطة فيها، بمسائل معقدة لا يقدم حلولاً لها، مثل البطالة والنمو الإقتصادي والقروض الدولية، وتحقيق العدالة الإجتماعية، والتعاطي مع الديمقراطية، إذ يكفّر هذا الإسلام مَن يقيم نظام «حكم الشعب للشعب» ويلجأ الى الإنتخابات، لأن «الحكم هو لله»، وهذا ما شكّل لهذا الفكر نكسة لانه قدم نفسه خارج التاريخ الاسلامي الحضاري وتاثيره الايجابي على الانسانية والذي اصطدم أيضاً بالحداثة، كما كان بعيداً عن تقديم رؤيته لحقوق الإنسان والمرأة في مقدمها.
ولقد دخل لبنان زمن «الفكر التكفيري» بعد أن كان واحة للحريات على تناقضها مع الواقع السياسي والطائفي الذي أرساه النظام اللبناني الذي اعتمد الطائفية السياسية للحكم، وليس المواطنة، ولكن ومع العمل على إلغاء الطائفية السياسية، فإن اللبنانيين باتوا أمام حالة تكفيرية بدأت تقيم لها قواعد في مناطق ذات كثافة سكانية سنّيّة، مدعومة من هيئات وجمعيات دينية، تتّخذ من المساجد كما في كل العالم، مقرات لها، لتعزيز الفكر التكفيري الإلغائي للآخرين.
وقد أدّى توسع هذا الفكر الى نشوء ظاهرة الإنتحاريين في لبنان الذين تقدّرهم الأجهزة الأمنية بالمئات، وأن باستطاعة الجماعات التكفيرية أن تزج بالعشرات منهم يومياً في عمليات إنتحارية في كل لبنان، حيث يتركّز العمل في هذه المرحلة على مناطق شيعيّة لتأجيج الصراع المذهبي، واستعادة المشهد العراقي والباكستاني، وهو ما بدأ يقلق المجتمع اللبناني قبل القيادات اللبنانية المنشغلة بتشكيل الحكومة، والحقائب الوزارية التي ستحصل عليها، تحت عناوين سياسية فئوية أو حقوق طائفية، أو كيدية سياسية، وبخلاف على جنس ملائكة هذه الحقائب بجدل بيزنطي، وقد باتت مناطق لبنان وأحيائه، مرتعاً للتكفيريين يفجرون السيارات وأجسادهم في عمليات لا تستهدف سوى القتل والتخريب، لإشاعة الفوضى، وإسقاط مؤسسات الدولة، فيكون التكفيريون في السياسة هم أنفسهم التكفيريون في الدين، يمارسون القتل للبشر والتدمير للحجر، فمن يكفّر بالسياسة يريد أن يبقى أميراً في طائفته يستفيد من مغانمها، ومَن ينصب نفسه «أميراً إسلامياً» في الدين، كأبو سياف الأنصاري، و«أبو محجن» و«أبو عمر» (عمر الأطرش)، و«أبو قتادة»، يعملون جميعاً على تدمير المجتمع. إنها الحرب العالمية تخاض ضد التكفيريين ولبنان دخلها دولة ومجتمعاً بعد أن بدأ هؤلاء يدمرونه…
Leave a Reply