كمال ذبيان – «صدى الوطن»
قبل عام شهد لبنان حراكاً شعبياً، وقفت وراءه جمعيات وتجمعات تدّعي إنتماءها الى «المجتمع المدني»، فلم يكن بـ «ربيع لبناني»، ولا «بثورة شعبية» على غرار ما حصل في بعض الدول العربية، التي تحوّل فيها «الربيع»الى «خريف»، و«الثورة السلمية» الى حرب أهلية، حيث مازالت تعيش دول مثل سوريا واليمن وليبيا حروباً مدمّرة، فيما استعادت مصر سيطرة العسكر على السياسة، والإطاحة بـ «الإخوان المسلمين» من الحكم، في وقت كان تنظيم الإخوان في تونس أعقل «الإسلام السياسي»، إذ لم تحاول «حركة النهضة» برئاسة راشد الغنوشي التفرد بالسلطة، بل قبلت مشاركة الآخرين، فنجت هي، وأنقذت تونس من حرب عبثية يحاول «الجهاديون» إشعالها.
ولقد جرت محاولة بعد إندلاع «الربيع العربي»، تجلت بخروج الجماهير اللبنانية الى الشارع مطالبة بإسقاط النظام، حيث تمّ تنظيم تظاهرات أُبعِدت عنها أحزاب السلطة، تطالب بـ «إسقاط النظام الطائفي». وقد عبّر عشرات آلاف المواطنين عن مطالبتهم بالتغيير، لكن أجهضت هذه المحاولات التي عمّت مختلف المناطق، لأن الطائفية متجذرة في النفوس قبل النصوص، وأن محاولات السعي لإجتثاثها باءت بالفشل، حتى بعد أن أقرّ إتفاق الطائف، بضرورة إنشاء هيئة لإلغاء الطائفية، التي اعتبرتها المادة 95 من الدستور أنها حالة مؤقتة منذ الإستقلال في العام 1943.
فإصلاح النظام مطروح منذ عقود، وقد قام الحزب السوري القومي الاجتماعي بمحاولتين لإستبداله بنظام جديد قائم على المواطنة والعدالة السياسية في قانون إنتخاب عادل، والعدالة الإقتصادية بتوزيع الثروة، والعدالة الإجتماعية بإنصاف العمال والفلاحين والمزارعين وأصحاب المهن والموظفين، ففشل في ثورة عام 1949 التي قادها مؤسس الحزب أنطون سعاده وأعدم في 8 تموز من ذلك العام. كما قام الحزب بإنقلاب عسكري نظّمه منتصف ليل 31 كانون الأول 1961، فتعاون مع ثلاثة ضباط قوميين منتمين له، هم فؤاد عوض، شوقي خيرالله وعلي الحاج حسن، وكانوا برتب متدنية، برتبة نقيب وما دون، ولم تتوفر للإنقلاب ظروف النجاح، فزجت السلطة اللبنانية برئاسة فؤاد شهاب، بقادة الإنقلاب في السجن، ومعهم عشرات آلاف الأعضاء والمناصرين في الحزب القومي.
وهكذا لم يعرف لبنان في تاريخه الحديث أي إنقلاب أو ثورة شعبية، سوى تلك التي نظمتها المعارضة التي كانت منضوية تحت اسم «الجبهة الإشتراكية الوطنية» برئاسة كميل شمعون وكمال جنبلاط، ومَن تحالف معهما، وتمكّنت هذه الثورة البيضاء، بالعصيان المدني الذي نفّذته أن تفرض على رئيس الجمهورية بشارة الخوري الإستقالة، وانتخب شمعون المعارض رئيساً للجمهورية، بدعم دولي – إقليمي.
فلم يقدم أي ضابط في الجيش على إزاحة الطبقة السياسية الفاسدة، وكان المواطنون يتطلعون في العالم الثالث، الى الجيش كي ينقذهم من فساد السياسيين. لكن في التجربة، لم يكن «حكم العسكر» بأفضل، إذ لم يلجأوا الى الديمقراطية، بل الى الدكتاتورية، والنظام الأمني ليحمي العسكر حكمهم، فابتُليت الشعوب بحكام عسكريين لم يبرهنوا في أدائهم على أنهم أفضل من الانظمة السياسية المدنية، وهذا ما حصل مع كل الإنقلابات العسكرية التي شهدتها دول في العالم الثالث، والعالم العربي تحديداً، فأصيب المواطنون بنكسة وصدمة، نتيجة رهانهم الخاطئ على أن «الجيش هو الحل»، وهو الشعار الذي رفعه العماد ميشال عون عندما كان قائداً للجيش في ثمانينات القرن الماضي، ليتبيّن أن وراء الشعار، كان تأمين وصوله الى رئاسة الجمهورية، وأنه القادر على الإطاحة بالميليشيات وإلغائها، وفرض سلطة الدولة، وهو ما مارسه أثناء ترؤسه الحكومة العسكرية في نهاية عهد الرئيس أمين الجميّل في العام 1988، ليظهر أن عون وبدلاً من أن يؤمن إنتقالاً للسلطة وإنتخاب رئيس للجمهورية، كما فعل قائد الجيش فؤاد شهاب أثناء «الثورة البيضاء» ضد الرئيس بشارة الخوري، فإنه (عون) لم يقبل أن يغادر قصر بعبدا، وتمرّد على الشرعية بعد إتفاق الطائف، فلم يعترف بإنتخاب الرئيس رينيه معوض ولا الرئيس الياس الهراوي، فخرج من القصر الجمهوري بعملية عسكرية، سبّبت بنفيه الى فرنسا.
فكل ما جرى في تاريخ لبنان، من حراك سياسي أو عسكري، كان مصيره الفشل، بسبب أن الصراع على مطالب سياسية – حقوقية واقتصادية – اجتماعية، يتحوّل الى اقتتال طائفي، وينجح زعماء الطوائف الممسكين بالسلطة ومؤسساتها من حرف إتجاه الحراك، وهذا ما حصل عشية إندلاع الحرب الأهلية في لبنان، عندما طرحت الحركة الوطنية اللبنانية، برنامجاً مرحلياً لإصلاح النظام السياسي بالأطر الديمقراطية، كمن لها الطائفيون، وحرفوا المعركة بإتجاه مسلم – مسيحي، وفرز طائفي بين مناطق شرقية وغربية، وضاع البرنامج الإصلاحي، وماتت محاولة الإصلاح.
وفي مثل هذا الوقت قبل سنة، حرّكت أزمة النفايات، المواطنين فانضووا بتجمعات ذوات أسماء متعددة، مثل «طلعت ريحتكم»، و«بدنا نحاسب»، و«من أجل الجمهورية» إلخ… وأحصي حوالي 72 جمعية وتجمعاً تظاهروا واعتصموا في ساحة رياض الصلح قبالة السراي الحكومي، وعند تخوم مجلس النواب القريب، إلا أن أجهزة السلطة، التي يحركها زعماء الطوائف، نجحوا في محاصرة الحراك الذي لم يكن منظماً، لا بل فوضوياً في الشعارات والممارسة. واستفاد بعض محركي الشارع من وجود وسائل إعلام مرئية، تنقل الحدث، ليتحولوا الى نجوم الشاشة، فضيعوا أهداف الحراك المشروع بمطالب، لإسقاط الطبقة السياسية الفاسدة، فلم يكن هناك تنسيق بين القوى في الشارع، وإن حصل، فكل طرف يريد أن ينسب الحراك له، وأنه كان أول مَن قاده وتصدّره، وله وحده أحقية وأمرة قيادته، وهذا ما شكّل عقبة أساسية أمام نجاح الحراك، وتأييد الناس له، ومنحهم ثقته، فكان أن بدأ المواطنون ينفكون عن ذلك الحراك الذي تحوّل الى عنفي، نجحت السلطة في استدراج المتظاهرين الى الصدام، لاسيما ممن سموا «شبيحة النظام»، ، الذين رفضوا التقدم نحو المجلس واقتحامه لأن له رمزية سياسية وطائفية، فكاد أن يقع الصدام بين شباب من الحراك، ومنضوين لحركة «أمل»، اعتبروا أن المستهدف هو الرئيس نبيه برّي الذي وُضعت صورته مع آخرين من رموز السلطة والإشارة الى أنهم فاسدون.
ولم يكد يمر حوالي الشهر على الحراك الشعبي الذي بدأ بزخم قوي واحتضان من المواطنين، حتى بدأ القلق يساور أهل السلطة، ويخافون من الوعي الذي بدأ يطلقه بين المواطنين وفي صفوف الشباب الذين شكلوا النسبة العالية من الحراك الذي خمد صوته، سوى ما تقوم به حركة «بدنا نحاسب»، من بعض التظاهرات التي تتركّز أمام التفتيش المركزي، المؤسسة التي عليها أن تكبح الفساد، وتحارب المتورطين به والمرتكبين الذين تدل عليهم فضائحهم وسمسراتهم وصفقاتهم، وليس موضوع طمر النفايات سوى واحد من عشرات الملفات المفتوحة تحت اسم الفساد وغياب المحاسبة، ومنها كشف شبكة الإنترنت غير المشروع، والهدر الذي تسببه بمئات ملايين الدولارات، الى الملفات التي يتم التداول بها عن تلزيم المعاينة الميكانيكية وما يدور حول صفقات دفاتر السوق والسيارات، الى تلوث مياه الأنهر والبحر، ثمّ القمح المسرطن، والدجاج الفاسد، واللحوم المستوردة المنتهية الصلاحية، والتلاعب بالدواء، والمواد الغذائية الفاسدة، إضافة الى الفساد الإداري والرشاوى، وتعطيل معاملات المواطنين.
كل هذا الفساد، والحراك الشعبي عاطل عن العمل، إلا من بعض الإطلالات الموسمية، للتذكير إعلامياً فقط…
Leave a Reply