لن يمر زمن طويل، قبل أن يكتشف شيعة لبنان أن خسارتهم برحيل المرجع العربي اللبناني العلامة والمفكر الاسلامي الكبير السيد محمد حسين فضل الله، هي خسارة لا تعوض.
رب قائل أن هذا التقدير فيه انتقاص من شأن الشيعة وقدرتهم على انجاب “فضل الله آخر” يعيد ربطهم بتاريخهم المؤسس ودورهم في الحفاظ على عقيدتهم التي تعرضت لعملية سجن في صدور أبنائها على مدى قرون، منذ أن قفز بنو العباس الى السلطة باسمهم ثم انقلبوا عليهم، وصولا الى دولة الخلافة العثمانية التي امتد حكمها لأربعة قرون كان خلالها الشيعة طائفة غير معترف بها واستمروا يمارسون التقية خشية التنكيل بهم والقضاء على وجودهم على هامش دولة الخلافة.
لكن ظهور علامة ومفكر ومجدد من خامة السيد فضل الله ليس مسألة “انجاب” وحسب، انه عملية تأسيس لمرحلة تتطلب عقودا من الزمن، اذا تفاءلنا بأن البيئة الشيعية بواقعها الراهن تسمح بتبلور مرجعية عربية مستقلة الى حد بعيد عن سلطة دولة أو ولاية خارج الاطار الجغرافي لشيعة لبنان، مثلما هي حال المرجعية التي مثلها الراحل الكبير.
فتجربة السيد فضل الله في التصدي للمرجعية كانت وظلت تقع في خانة الاستثناء، وكسرت حظرا عرفيا على نشوء مرجعيات خارج النجف العراقية أو قم الايرانية. فما بالك أن مرجعية الراحل الكبير اكتست بعدا سياسيا الى جانب البعد الفقهي والمعرفي، على خلاف مرجعية النجف التي لم يعرف عنها تحملها أعباءسياسية نيابة عن أبناء الطائفة، بل ظلت تمارس احتجاجا ناعما من منطلقات “أخلاقية” و”مواطنية” لم يكن لها أن تحدث أي تأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبيئة الشيعية في بلد مثل العراق يشكل الشيعة نحو ثلاثة أرباع سكانه.
فالسيد فضل الله بما حققه من نهضة فكرية واقتصادية وسياسية في الأطر الشيعية (غير النخبوية) وهو المعروف عنه حبه والتزامه بقضايا الفقراء والمعدمين وانطلاقة حركته التنويرية والتعبوية من صفوفهم حصرا، لا يمكن اعتباره قيمة عابرة في التاريخ الشيعي اللبناني والعربي والعالمي.
ولعل من أبلغ ما يصف مكانة السيد فضل الله هو ما جاء على لسان الاعلامي العربي المخضرم محمد حسنين هيكل حينما قال:
“السيد فضل الله إنسان لا تستطيع أن تختلف معه وهو مظلوم أن يبقى في لبنان لأنه مرجعية اسلامية كبرى”. ثم يضيف هيكل “السيد محمد حسين فضل الله لديه عقل يضاهي عقل لينين في قدرته على التخطيط وإنني عندما زرت لبنان، استفاد الجميع مني ولكن أنا لم استفد الا من المرجع السيد محمد حسين فضل الله”.
أما الباحث اللغوي والمتعمق في التاريخ الاسلامي الشيخ والأديب عبدالله العلايلي فقد أبدع في إطلاق لقب “حجة الله البالغة” على السيد فضل الله مقسما أن “هذا اللقب ليس بالكثير ازاء إمام دون أفقه المتنابذون بألقاب تشغف آذان دنياهم وتروق في أعين أهوائهم وما لهم في جنب الحق من خلّاق ولا نصيب.”
ويسهب الشيخ العلايلي في التفسير اللغوي للقب “الإمام” الذي يستحقه السيد فضل الله، شارحا معنى كلمة “إمام” في اللغة ليقول: “هو شاقول البناء وخيطه الذي به تقاس استقامة وضع الحجارة وانسجام رصف اللبنات وحسبك أن بناية وطنك، وعمارة أمتك إنما تقاس بك، ومائلها لا يعرف مقدار جنوحه وميله إلا بخيطك وخطك”.
ويتساءل الباحث في التاريخ الاسلامي وصديق الراحل، الدكتور ابراهيم بيضون في انطباعاته عن رحيل السيد فضل الله: من أين كان السيد المستغرق في الشؤون العامة يجد حيزا لشؤونه الخاصة؟ متى كان يكتب أو يتسلل اليه الوحي لمراودة الشعر؟ وكيف استطاع أن ينجز تلك المؤلفات الغزيرة؟ وأخيرا وهو السؤال الأصعب كيف أنجز موسوعته القرآنية التي نبّعت الثلاثين من المجلدات؟ وهي موسوعة فريدة، صاغها بفكر مستنير ولغة أنيقة ما يشد القارئ اليها من أولى صفحاتها فلا يصطدم بركام الروايات الجافة، أو ترهقه الشروحات المعقدة، ثم يجيب الدكتور بيضون: “انه سماحة آية الله السيد حسين فضل الله، من يملك هذه الطاقات التي تفجرت أبحاثا ومشاريع وانجازات لا ينهض بها سوى الاستثنائيين الذين وهبوا حياتهم للقضايا الكبيرة.. يرحل، فيغيب تاريخ معه، عصر بكامله كان من صانعيه يخفت ضوؤه البهي، فكيف يمكن أن نبدأ عصرا “جديدا” من دونه؟ فالرجال العظام لا يتكررون وان جاد الزمان وقلما يجود- بأشباه لهم، فلا يعرف هو (الزمان) متى يحدث ذلك”.
لقد أدخل المرجع الراحل السيد فضل الله الى المرجعية الشيعية حركية لم تعرفها في تاريخها، فأطلق أمام المؤمنين من مقلديه عنان العقل الذي بقي لقرون أسير الحجر والمحظورات وبعض الطقوس والمعتقدات التي لامست الأساطير والخرافات، فناله من الأذى المعنوي والتجريح ما لم يسبقه اليه سوى المرجع العلامة المجدد الراحل السيد محسن الأمين في بدايات القرن الماضي.
وتناول قضايا المرأة وموقعها وحقوقها في الإسلام بما يضاهي ويتفوق على نظرة “الغرب المتحضر” وأعاد الاعتبار الى تلك الحلقة التي كانت “مغيبة” بين العلم والايمان، فلم يتردد منذ بدايات تصديه للمرجعية في تحديد بداية ونهاية شهر الصوم، استنادا الى الروزنامة الفلكية، فيما ظل سواه من علماء المسلمين يتخبطون في”رؤية” هلالي رمضان وشوال معيبين عليه اعتماده على المعطيات العلمية!
أما وحدة المسلمين التي ظلت لغوا على ألسن الكثيرين من “علماء” الفتنة، فقد جسدها المرجع الراحل قولا وعملا مفتيا بحرمة التعرض لصحابة النبي (ص) ولزوجاته، ومنتزعا من أفواه بعض الموتورين من اعداء مذهبه “حججهم” التكفيرية.
بعد غياب المرجع التنويري وصاحب الفكر التجديدي الأبرز في المذهب الشيعي والجسر الذي ربط شيعة لبنان بالطوائف الأخرى يلح التساؤل: اي دور وأي مستقبل لشيعة لبنان؟
السيد فضل الله من قلائل العظماء الذين بدأوا رحلة وعيهم في مرحلة مبكرة جدا. فلنستمع اليه واصفا هذه الرحلة في أبيات من قصيدة نظمها وهو في العاشرة من عمره!
قال السيد فضل الله:
فمن كان في نظم القريض مفاخرا ففخريَ طراً بالعلا والفضائل
ولست بآبائي الأباة مفاخرا ولست بمن يبكي لأجل المنازل
فإن أكُ في نيل المعالي مقصرا فلا رجعت باسمي حداة القوافل
سأنهج نهج الصالحين وأرتدي رداء العلا السامي بشتى الوسائل
وأجهد نفسي أن أعيش معززا وليس طَلاب العزّ سهل التناول
Leave a Reply