وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
«وادي أبو جبارة» اسم سيحفر عميقاً في ذاكرة محمد بن سلمان وكل حلفائه. إنها المنطقة التي شهدت على الضربة الأقوى والأشد إيلاماً منذ بدء حربهم على اليمن.
فقد أعلنت حركة «أنصار الله» قبل عدة أيام عن أكبر عملية برية تنفذها ضد التحالف السعودي. أرقام مذهلة حملتها هذه العملية ستثقل كاهل السعوديين نظراً لنتائجها المرعبة، والتي سيتردد صداها في أروقة القصور الملكية السعودية إلى أجل غير مسمى، وسيكون وقعها ثقيلاً على الرياض، وعلى كل من يقف خلفها في حربها على اليمن. وهي من دون شك ستفرض معادلة جديدة على أرض الواقع، ميدانياً وسياسياً، وستضيّق هامش المناورة أمام قوى التحالف لإطالة أمد الحرب بهدف كسبها، وستعزز مكانة «أنصار الله» في أية تسوية مقبلة. والأمر لم يعد خياراً بالنسبة للسعوديين، بل بات حاجة ملحّة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وحل المستنقع اليمني، الذي أغرقوا أنفسهم فيه، ويكاد العالم بأسره يسمع صوت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المخنوق وهو يئن تحت وطأة الضربات اليمنية المتلاحقة، طالباً النجدة والخلاص، وما رسائله التصالحية باتجاه إيران إلا أول الغيث.
وقائع عملية «نصر من الله»
المتحدث العسكري باسم الحوثيين يحيى سريع وخلال مؤتمر صحافي شرح تفاصيل العملية وأعلن أنها كانت قد انطلقت في الخامس والعشرين من آب (أغسطس) الماضي، وسبقها رصد دقيق استمر شهوراً قبل استدراج العدو باتجاه أكبر كمين تنفذه حركة «أنصار الله» منذ اندلاع الحرب.
وأضاف سريع أن قوات الحركة تمكنت أيضاً من تحرير 350 كيلومتراً مربعاً في المرحلة الأولى من العملية، بما فيها من مواقع ومعسكرات، وهو ما أدى إلى سقوط ثلاثة ألوية بعددها وعتادها في محور نجران، ومن بين الغنائم التي حصل عليها الحوثيون سيارة للبث التلفزيوني المباشر، تعمل عبر الأقمار الاصطناعية، وكانت تربط مواقع المواجهة بمحطتي «العربية» و«الحدث» التلفزيونيتين، بحسب ما نقل «أنصار الله».
وقد تبيّن لاحقاً أن الجزء الأكبر من الآليات العسكرية التي سيطر عليها الحوثيون هو من صناعة كندية، وكانت السعودية قد حصلت على تلك الآليات والمدرعات من أوتاوا من دون أن تكون قد سددت ثمنها بعد، وهي بحسب صحيفة «أوتاوا سيتيزن» الكندية جوهرة أسطول المركبات المدرعة التابعة للقوات الكندية، وقد وقعت بسهولة في أيدي الحوثيين.
وتعليقاً على ذلك، غرّد رئيس اللجنة الثورية العليا في اليمن محمد علي الحوثي على «تويتر» قائلاً: «مستعدون للتشاور مع كندا في ما يخص المدرعات والآليات وبالأخص «المحروقة» إذا اعترفت بانتهاك القوانين وصححت موقفها تجاه الشعب اليمني».
وبالعودة الى الناطق العسكري باسم الحوثيين، العميد سريع، فقد قال إن الحوثيين نفذوا كذلك هجمات صاروخية على عدة أهداف داخل السعودية، في نجران وعسير وجازان، ضمن المرحلة الأولى من عملية «نصر من الله».
وأكد أن الوحدات العسكرية البرية التابعة لـ«أنصار الله» طوّقت «وحدات العدو» في محور نجران، ونجحت في غضون 24 ساعة في إعاقة طائراته، مشيراً إلى أن مطار جازان وحده استُهدف بعشرة صواريخ باليستية.
وفي المؤتمر الصحافي نفسه، كشف سريع عن تنفيذ 31 عملية باستخدام الطائرات المسيرة استهدفت مناطق ما سمّاها «دول العدوان»، وموقعاً حساساً في الرياض.
وقد أفاد سريع بأن إجمالي الخسائر البشرية للميليشيات السعودية يتجاوز الخمسة آلاف ما بين قتيل وجريح، وأكثر من مئتي قتيل بغارات الطائرات السعودية، التي تعمّدت قصفهم بعشرات الغارات، وهناك من قُتل أثناء الفرار، وآخرون أثناء عملية الاستسلام.
وأفاد العميد سريع بأن قوات الجيش واللجان حاولت تقديم الإسعافات الأولية للمصابين جراء الغارات الجوية، إلا أن استمرار التحليق المكثف وشنّ غارات إضافية أدّيا إلى وقوع المزيد من الخسائر، وهو ما أوضحته الصور. واعتبر ما حدث إبادة جماعية متعمّدة بهدف منع «المخدوعين» من الفرار وعدم تسليم أنفسهم موضحاً بأن عدد الأسرى بلغ 2,400 أسير سلموا أنفسهم طواعية بعد حصارهم من الاتجاهات كافة وتعرضهم للغارات.
وفي ما يتعلق بموضوع الأسرى أيضاً، أكد رئيس لجنة شؤون الأسرى عبد القادر المرتضى، أن المئات من جثث مسلحي العدوان والجنود السعوديين لا تزال مرمية في الشعاب والأودية في محور نجران منذ ما بعد العملية ولم تسمح قوات التحالف للجنة الصليب الأحمر بانتشالها، معلناً انفتاح صنعاء على إنهاء معاناة الأسرى بصفقة تبادل مع الأطراف كافة.
وفي بيان صادر عن الحوثيين يتعلق أيضاً ببعض تفاصيل العملية، ورد أن عدة وحدات متخصصة تابعة للجماعة شاركت في «العملية الكبرى» بمهامّ مختلفة وضمن نطاقات جغرافية أوسع، في إطار دعم وإسناد العملية العسكرية، وعلى رأس تلك الوحدات القوة الصاروخية وسلاح الجو المسير، إضافة إلى قوات الدفاع الجوي والقوات البرية بوحداتها المختلفة.
في نتائج العملية
التوثيق الميداني الشامل للعملية ومن ثم إخراجها إلى الإعلام أظهرا تكتيكاً احترافياً أصاب السعوديين في مقتل وقطع كل محاولات التشكيك في مجرياتها ووقائعها بيقين المشاهد الموثقة التي عُرضت، ما تسبب في إحداث صدمة قوية لدى الرأي العام الداخلي، ربما يدفعها إلى حد الإحباط الشامل وحتى اليأس.
يُحسب لـ«أنصار الله» اتّباع تكتيكات متنوعة في تنفيذ العمليات، وهو عامل شديد التأثير في الميدان، يسهم في إضافة مآزق جديدة إلى مآزق الخصم المتراكمة، ثم إن المواجهة المباشرة مع تشكيلات التحالف سمحت بتحييد سلاح الطيران الحربي الذي اضطُر لاحقاً إلى استهداف عناصره، وهو ما يعني أن قوات التحالف لم تعتدْ أبداً القتال من دون غطاء جوي، وبذلك وجدت تلك القوات نفسها فرائس سهلة للحوثيين الذين أحسنوا اختيار التوقيت، ونجحوا في التخطيط والتنفيذ، وهو ما أفرز تلك النتائج غير المتوقعة.
ولعل أبرز نتائج العملية هو انكشاف النظام السعودي أمام شعبه، فقد بات اختراع الانتصارات الوهمية والتغني بمفاعيل «عاصفة الحزم» أمراً مستحيلاً، خاصة بعد ضربة «أرامكو» التي بدت تمهيدية بالقياس إلى عملية «نصر من الله». فالشعب السعودي بات على يقين بأنه يُستنزف على أرض اليمن على كافة الصعد، مادياً وبشرياً وحتى سياسياً، بل إن رصيد المملكة الإنساني بات صفراً، إذا ما استذكرنا كل الإخفاقات السابقة، ولعل مأساة الشعب اليمني وحدها تكفي لتلويث سمعة عهد ابن سلمان لزمن بعيد، كيف لا وكل الهيئات الإنسانية العالمية أكدت أن المجاعة التي يرزح تحتها الشعب اليمني اليوم، هي الأسوأ من نوعها في التاريخ الإنساني المعاصر.
وقد نشرت وكالة «رويترز»، الأربعاء الماضي، تقريراً نقلت فيه عن دبلوماسي أجنبي كبير وخمسة مصادر تربطها علاقات مع العائلة المالكة ونخبة رجال الأعمال قولهم إن انكشاف السعودية أمنياً يثير قلقاً متزايداً وسط عدد من الفروع البارزة لعائلة آل سعود ذات النفوذ القوي، والتي يبلغ عدد أفرادها حوالي عشرة آلاف، بشأن قدرة ولي العهد على الدفاع عن أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم وقيادتها.
وقالت المصادر إن هجوم «أرامكو» أثار سخطاً وسط بعض الذين يعتقدون في دوائر النخبة أن ولي العهد سعى لتشديد قبضته على السلطة. وقال بعض هؤلاء الأشخاص إن الهجوم أثار انتقادات بين أولئك الذين يعتقدون أنه اتخذ موقفاً عدوانياً مبالغاً فيه تجاه إيران.
مبادرة من جانب واحد
لا بد إذن من العودة إلى مبادرة السلام التي كانت حركة «أنصار الله» قد أطلقتها بعد استهداف شركة «أرامكو» عبر اقتراح وقف الهجمات بالطائرات المسيرة مقابل وقف شامل لإطلاق النار.
يومذاك رفضت الرياض وحلفاؤها المبادرة، بل أكثر من ذلك خرقوا الهدنة التي كانت معلنة في مدينة الحديدة، وشنوا هجمات عنيفة متلاحقة على مدى أيام عدة.
ولا تزال المبادرة الحوثية قائمة، إذ التقى الأسبوع الماضي المبعوث الأممي مارتن غريفيث، رئيس المجلس السياسي الأعلى في اليمن مهدي المشاط الذي أكد خلال اللقاء الالتزام بمبادرة إعلان وقف استهداف الأراضي السعودية مقابل وقف العدوان ورفع الحصار، مؤكداً إيقاف العديد من الضربات الاستراتيجية التي لا تقل عن ضربة «أرامكو» من حيث الحجم والتأثير، لكنه توعّد في الوقت نفسه بضربات موجعة إذا لم يلتزم التحالف السعودي بوقف العدوان.
لكن بعد عملية «نصر من الله»، لا يمكن للرياض أن تستمر في رفض المبادرات بل هي باتت بأمسّ الحاجة إلى تلقّفها، فقد أمست كالمريض الذي يترنح بجسده المتهالك المثخن بالجراح، حتى أنها بدأت بإرسال الرسائل إلى طهران طلباً لـ«حل سياسي».
ففي حوار مع برنامج «60 دقيقة» عبر شبكة «سي بي أس» الإخبارية الأميركية، أكد ولي العهد السعودي أنه لا يريد اندلاع حرب مع إيران
ورغم تحميل طهران مسؤولية الهجوم على منشأتي النفط التابعتين لـ«أرامكو» ووصفه بـ«العمل حربي»، شدد ابن سلمان على ضرورة ألا يكون الرد على إيران عسكرياً، وقال إن «الحل السياسي والسلمي أفضل بكثير من الحل العسكري»، محذراً من أنه إذا حدثت حرب بين السعودية وإيران فإن العالم بأكمله سيتأثر، وقال إن «المنطقة تشكل تقريباً 30 بالمئة من إمدادات الطاقة في العالم، وحوالي 20 بالمئة من المعابر التجارية العالمية، وحوالي 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي».
وأضاف «تخيّلوا كل هذه الأشياء الثلاثة تتوقف، هذا يعني انهياراً كاملاً للاقتصاد العالمي وليس فقط للسعودية أو دول الشرق الأوسط». وأضاف: «إذا لم يتخذ العالم إجراء قوياً وحازماً لردع إيران، فسنشهد مزيداً من التصعيد يهدد المصالح العالمية. وإمدادات النفط سوف تتعطل وأسعار النفط ستقفز إلى أرقام عالية لا يمكن تصورها ولم نشهدها في حياتنا».
أفق المرحلة المقبلة
«نصر من الله» أو «أم المعارك» اليمنية السعودية، ما بعدها لن يكون كما قبلها. ففي منطق الحرب، الكلمة الفصل هي دائماً للميدان، وفي الميدان اليوم نمرٌ من ورق، يتهاوى تحت وطأة ضربات أصحاب الأرض. لا بد وأن مسار حرب التحالف السعودي على اليمن سيتخذ بعداً مغايراً تماماً بعد ما حصل في وادي أبو جبارة، ولا بد أيضاً من أن يكون ولي العهد السعودي قد استفاد من الدرس، فيوقف تلك الحرب التي استنزفت مقدرات بلاده، وأنهكت الشعب اليمني، ولم تستفد منها سوى شركات السلاح التي وجدت فيها سوقاً رحبة لترويج سلعها المدمرة.
التاريخ يقول إن المحتل نهايته الانكسار، والغلبة دوماً لأصحاب الأرض. فاليمنيون لم يذهبوا لغزو السعوديين في بلادهم بل إن السعوديين هم الذين اعتدوا على أرض اليمن، ومن حق الأوطان على أبنائها أن يذودوا عن حياضها ويأن يدفعوا عنها أي نوع من الأذى. ولا خير في الحروب سوى نهايتها.
Leave a Reply