أفغانستان .. أطول حروب واشنطن
واشنطن – محمد دلبح
16 عاماً مضت منذ أن أمر الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن قواته بغزو أفغانستان وقصفها جواً وبراً، رداً على ما سماها أسامة بن لادن غزوة نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 دفعت فيها الولايات المتحدة عشرات الآلاف من قواتها وأنفقت مليارات الدولارات على حرب لا تزال مفتوحة (120 مليار دولار فقط على برنامج إعادة إعمار أفغانستان) ولطالما حذر العديد من الدخول فيها ضد بلد تقول كتب التاريخ الحديث أنه هزمَ كل الغزاة.
لقد بررت الحكومات الأميركية المتعاقبة استمرار الحرب على أفغانستان التي أودت بحياة ٢٣٠٠ عسكري أميركي، بأنها تستهدف إنهاء الإرهاب والقضاء على طالبان، لكن التنظيم الذي انبثق من المدارس القرآنية في أفغانستان وباكستان ما زال بعد 16 عاماً من سقوط دولته (رسمياً) حاضراً بقوة في مدن وأرياف أفغانستان وفي العاصمة كابول. يضرب هنا وهناك ويتحرك مقاتلوه دون خوف أو وجل… فيما واشنطن محتارة بما ستفعله للخروج من مأزقها في بلد تعتبره غير ذات أهمية قصوى لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ولكن بما يحفظ ماء وجه جنرالات البنتاغون، غير ذي هذا لم يمنع الرئيس دونالد ترامب من القول في خطابه حول «حالة الاتحاد»، ليلة الثلاثاء الماضي، «إن جيشنا إلى جانب شركائه الأفغان البطوليين لن تضعفه بعد الآن جداول زمنية مصطنعة، ولم نعد نخبر أعداءَنا بخططنا».
البداية.. ضبط باكستان
منذ أن تشكلت دولة باكستان في عام 1949 بقرار الانفصال عن الهند، والولايات المتحدة تنظر إليها بوصفها محوراً استراتيجياً في المنطقة وأقرب حليف عسكري لها منذ عقود في جنوب آسيا.
ولطالما اعتبرت الولايات المتحدة رهاناتها في باكستان عالية جداً لا تسمح لها بالتخلي عن علاقاتها مع إسلام آباد أو اتخاذ خطوات أخرى من شأنها أن تزعزع استقرار البلاد، فيما ظلت الرهانات في أفغانستان منخفضة نسبياً.
وعلى الرغم من ذلك، شهدت السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي لأفغانستان، بطء الحل الذي انتهجته واشنطن بالاعتماد على باكستان كطرف أساسي لإنجاح حربها في أفغانستان والقضاء على تنظيم «القاعدة» الذي كان يتخذ من أفغانستان تحت حكم طالبان مقراً له. ويشير ستيف كول في كتابه «حروب الأشباح»، إلى زرع بذور عدم الثقة في وقت مبكر، وتراكم الاتهامات المتبادلة باضطراد.
وبعد أسابيع من الغارة التي شنتها فرقة كوماندوز أميركية في عام 2011 لقتل أسامة بن لادن، أوضح قائد الجيش الباكستاني، الجنرال أشفق برويز كاياني، عجز بلاده التي تحولت في لحظة فارقة إلى مجرد تابع للولايات المتحدة تتلقى منها الدعم المالي مقابل تقديم خدمات أمنية لها، فيما بدا أن المسؤولين الأميركيين الذين تعاملوا مع باكستان ينظرون إلى إسلام آباد بوصفها الزوجة التي استنزفت رصيد حساب البنك العائلي، ثم نامت مع الجار الغامض.
منذ الغزو في ٢٠٠١، منحت الولايات المتحدة باكستان دوراً مؤثراً في استراتيجيتها الأفغانية. غير أن الخطأ الذي ارتكبته حكومة جورج بوش الابن هو السماح لـ«تحالف الشمال» بتولي السلطة بعد دحر طالبان من كابول وقندهار في أواخر عام 2001. وقد حذر رئيس محطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) في إسلام آباد، الحكومة الأميركية من الانحياز إلى «تحالف الشمال» الذي تعتبره باكستان ميالاً إلى الهند على حساب باكستان التي تريد عودة الباشتون –حلفائها التقليديين– إلى السلطة في كابول كجزء من التسوية السياسية عقب هزيمة طالبان.
ارتباك
طاقم بوش للأمن القومي والسياسة الخارجية أصابه الارتباك إزاء ما اصطلح عليه بـ«سيناريو الكابوس» بسبب العنف الذي امتد إلى باكستان وانهيار حكومة الرئيس برويز مشرف ووقوع ترسانة البلاد النووية في يد الجنرالات الباكستانيين الذين يتعاطفون مع طالبان. وقد قضى مشرف نفسه سنوات طويلة في إثارة هذه المخاوف. وكثيراً ما حذر المسؤولين الأميركيين من أنه كلما تبنى مطالب واشنطن، كلما قل الدعم الذي يلقاه داخل الجيش، مما يزيد من فرص سيناريو «الكابوس».
ورغم مشاركة نحو 140 ألف جندي من قوات «الناتو» بقيادة أميركا في الحرب فقد تمكن مقاتلو «القاعدة» وطالبان من التسلل عبر الحدود الأفغانية الشرقية والإقامة في المناطق القبلية والمدن الباكستانية.
وقد أمر مشرف آنذاك، جهاز الاستخبارات العسكرية التابع له، بالعمل مع الـ«سي آي أي» لمطاردة قادة «القاعدة» في المدن الباكستانية، وأبلغ المسؤولين الأميركيين أن باكستان تستحق لقاء هذا العمل الحصول على مساعدات كبيرة وقد عزز اعتقال أبو زبيدة وخالد شيخ محمد عامي 2002 و2003 وجهة نظر بوش الابن بأن باكستان «تقف إلى جانبنا» وبأنها «حليف موثوق».
وقد أدى تركيز بوش الابن على استراتيجيته العراقية إلى تراجع التركيز على أفغانستان، وبدأت الاستخبارات الباكستانية العمل على تسليح وتمويل حركة طالبان (الباشتونية) والجماعات المسلحة الأفغانية الأخرى المقربة من باكستان في مسعى لتعزيز نفوذها في أفغانستان، وكانت الولايات المتحدة قد تعثرت في مساومات غير رسمية وغير معلنة مع باكستان لوقف مساعيها لتخريب جهود الولايات المتحدة في أفغانستان.
ويقول كول في كتابه إن الصفقة كانت مربحة بشكل مذهل لإسلام أباد. إذ بدأت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) سنوياً بنقل مئات الملايين من الدولارات نقداً إلى باكستان بحجة تقوية الجيش الباكستاني في عمليات مكافحة الإرهاب ولكنها في الحقيقة كانت بمثابة «رشوة قانونية» إلى جنرالات الجيش الباكستاني.
وفي عهد بوش الابن وخلفه باراك أوباما لم يتوقف الكونغرس عن الموافقة على تمويل باكستان مع بروز بعض التحفظات بين الحين والآخر. وقد مرت السنوات قبل أن يدرك أعضاء الكونغرس دورهم في «المهزلة الباكستانية» وقد أعرب العضو الديمقراطي البارز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي غاري أكرمان في جلسة استماع في عام 2012 عن أسفه لأن باكستان أصبحت «ثقباً أسود للمساعدات الأميركية».
وبدأ أعضاء الكونغرس يدعون إلى وضع استراتيجية للضغط على باكستان عن طريق خفض المساعدات السنوية، ولكن الحكومة الأميركية واجهت مأزقاً من نوع آخر: فمع تزايد الأهداف الأكثر طموحاً التي وضعتها الولايات المتحدة في أفغانستان، تزايدت الحاجة إلى مساعدة باكستان لتحقيقها.
إخراج أفغانستان من قائمة الدول الفاشلة
ترى الحكومة الأميركية أن الخروج من أفغانستان بأقل الضرر والحفاظ على ماء الوجه يتطلب بناء دولة حقيقية وإخراج البلاد من قائمة الدول الفاشلة. وهو أمر يحتاج إلى ضرب الفساد والتهريب، وهو ما لم يحدث بعد، منذ تولي قرضاي الحكم الذي فشل في إنهاء نفوذ أمراء الحرب وإعادة هندسة الاقتصاد بعيداً عن اقتصاد الأفيون بتمكين المزارعين الحصول على زراعات بديلة لكن مثل هذه الزراعات تظل أقل ربحية من زراعة الخشخاش.
وكلما ازداد استثمار الولايات المتحدة في الحرب الأفغانية، كلما بدا الأمر وكأن واشنطن تمسك بعجلة قيادة منفصلة عن بقية السيارة: خطوط التموين الرئيسية للقوات الأميركية التي يتزايد عددها تمر عبر باكستان. وقد تمكنت الحكومة في إسلام آباد (وفعلت، لمدة سبعة أشهر في وقت ما) من قطع الإمدادات، وترك قوافل من الشاحنات متوقفة بين ميناء كراتشي ومختلف المعابر الحدودية.
وقد أظهرت سنوات الحرب المتعاقبة عدم وجود سياسة كبرى للولايات المتحدة في أفغانستان، وهو أمر كان يصعب لبعض اللاعبين الرئيسيين لاسيما قرضاي وكاياني قبوله، حيث اختاروا ملء الفراغ بنظريات المؤامرة.
وأعرب كاياني وغيره من كبار المسؤولين العسكريين الباكستانيين عن اعتقادهم بأن الولايات المتحدة تعمل سراً مع حكومة قرضاى لتعزيز نفوذ الهند في أفغانستان كثقل موازن لباكستان. إضافة إلى ذلك فقد كان الباكستانيون يعتقدون أن قرضاى كان يشارك في مؤامرة أكثر تفصيلاً وهي أن واشنطن أرسلت المزيد من القوات إلى بلاده للحصول على موطئ قدم دائم في آسيا الوسطى يمكن للولايات المتحدة منافسة روسيا والصين من أجل التفوق في المنطقة.
وقد دفع مثل هذا التفكير جزئياً بنائب الرئيس الأميركي السابق جوزيف بايدن إلى إبلاغ قرضاي خلال اجتماعهما في كابول مطلع عام 2009 بعد شهرين من تولي أوباما الحكم، بأن باكستان أكثر أهمية من أفغانستان بخمسين مرة.
عهد ترامب
استغل جنرالات البنتاغون وصول رئيس وإدارة جديدة في واشنطن متزامناً مع أزمة الاقتصاد الأميركي عقب انفجار الأزمة المالية، بتقديم خطة مكلفة تدعو إلى تعزيز تواجدها العسكري في أفغانستان بآلاف الجنود الإضافيين، وقد وافق أوباما على الخطة بإرسال المزيد من الجنود في نهاية عام 2009. ومع اقتراب انتهاء فترة ولايته، أقنعه الجنرالات بالإبقاء على آلاف الجنود الأميركيين في أفغانستان إلى أجل غير مسمى.
وفي غضون أشهر من توليه منصبه، قِبل خليفته دونالد ترامب –الذي دعا في حملته الانتخابية إلى تقليص مغامرات أميركا الخاسرة في الخارج– خطة البنتاغون بإرسال آلاف الجنود الأميركيين الإضافيين. وكان سبق له في ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أن قال في تغريدة له على تويتر «لقد أهدرنا كمية هائلة من الدم والثروة في أفغانستان. وحكومتهم ليست لديها أي تقدير. دعونا نخرج».
وفي خطابه في شهر آب (أغسطس) 2017 الذي أعلن فيه استراتيجيته في جنوب آسيا عرض ترامب خطة جديدة لأفغانستان تتضمن استراتيجية عسكرية مع تحذير باكستان بشأن دعمها لطالبان. كما دعا الهند، العدو التقليدي لباكستان إلى القيام بدور أكبر في الشؤون الداخلية لأفغانستان، وهو تهديد يهدف بوضوح إلى تخويف المسؤولين الباكستانيين ودفعهم إلى التراجع.
وقال ترامب في خطابه إن واشنطن تريد أن تنجح الحكومة الافغانية وأن الدعم الأميركي ليس «شيكاً على بياض». كما تحرك ترامب بشكل حاسم بعيداً عن سياسة عهدي بوش وأوباما التي كانت تعتبر أن الولايات المتحدة هي قوة لنشر الديمقراطية في الخارج.
وقال ترامب «نحن لسنا دولة مهمتها بناء دولة… نحن نقتل الإرهابيين».
وذهب وزير خارجيته ريكس تيلرسون إلى أبعد من ذلك حيث قال في بيان نشر عقب انتهاء خطاب ترامب إن الولايات المتحدة توضح أن طالبان «لن تربح المعركة».
ومع نهايات عام 2017 ظهر الإحباط في البيت الأبيض حيث نشر ترامب تغريدة رئاسية غاضبة تدين سنوات الـ«لا شيء سوى الكذب والخداع» يليها إعلانه تعليق المساعدة الأمنية لباكستان.
بعد أكثر من 16 عاماً على غزو أفغانستان، اعترف البنتاغون يوم الثلاثاء الماضي بأن طالبان والجماعات المسلحة الأخرى تسيطر على 44 بالمئة من البلاد، فيما يرفض ترامب التفاوض مع طالبان التي ردت عليه في بيان مؤخراً تؤكد فيه أن «سلطة الحرب والسلم الحقيقية ليست بيد نظام كابول بل هي بيد الغزاة الأميركيين».
كول في كتابه «حروب الـ«سي آي أي» وأميركا السرية في أفغانستان وباكستان 2001–2016»، يلخص الحرب بأنها «حالة متواضعة لحدود القوة الأميركية». ولكن بعد مرور أكثر من عقد ونصف على غزو أفغانستان، لا يبدو أن الرئيس الأميركي الجديد سيقبل بمواصلة «مشروع متواضع» لا يعكس رؤيته للسياسة الأميركية الجديدة.
Leave a Reply