بقلم: فاطمة الزين هاشم
«بعلبك.. أنا شمعة على دراجِك أنا نقطة زيت بسراجِك»
كم كان انتقاؤها منسجماً مع حقيقة الطبيعة والروح المبثوثة فيها، حينما صدحت حنجرة الغناء العربي الذهبيّة «فيروز» من على مدرّجات بعلبك، عبر صوتِها الملائكيّ، بتلك الأبيات الشعريّة المعبِّرة، التي ترنّمّت بها حتّى أعمدة الهياكل الشامخة والمتراصفة في قلعتها الأثريّة، الصامدة بوجه القرون ورياح العواصف العاتية، القادمة من كلّ حدب وصوب.
مدينة بعلبك هي واحدة من مشاهير العناوين البارزة في إرشيف الحضارة في العالم، والشواهد المشرقة في تأريخ البشريّة، والمعالم الثقافيّة، الثرّة بأبنائها وشعرائها أمثال خليل مطران الغنيّ عن التعريف، وعاطف ياغي شيخ شعرائها، ورامز حيدر وصالح المرقوش ومحمود الزين وعدنان عبدالساتر وخليل شقير وغيرهم ممّن أثروا لبنان بسحر أبيات أشعارهم الجميلة، كما كان لمهرجاناتها الراقية الأداء، صيتها الذي امتدّ إلى أقاصي المعمورة، وشاعت بأبهائها الفنّيّة والحضاريّة الإنسانيّة في كلّ أنحاء العالم، ومن بمقدوره أن ينسى الأصوات التي صدحت على مدرّجاتها؟ من أصحابها عمالقة الفنّ اللبنانيّ من أمثال وديع الصافي وفيروز وصباح ونصري شمس الدين وغيرهم.
لقد أعطوا للعالم، الصورة الحيّة الرائعة عن حفاوة هذه المدينة بالحياة، التي تمتاز بالإضافة إلى جمال الطبيعة، بجمال خلق أهليها وحسن ضيافتهم، وروعة تنسيق شوارعها وساحاتها وأبنيتها العامّة وبيوتها التي توحي بالإلفة والإنسجام والطراز التشكيليّ المتناسق ذي البصمة الخصوصيّة، تلك هي بعلبك حقّاً، إيقونة البقاع الشماليّ دون منازع.
سحبني إلى تدوين هذه المقدّمة عن بعلبك، أحدُ أبنائها الأوفياء، وهو المطرب محمّد اسكندر، أثناء إحدى الحلقات التلفزيونيّة على الفضائيّات، حيث لحظة سألته مقدّمة البرنامج عن بعلبك، رأيناه قد انفجر بركاناً، فأطلق لحنجرته العنان، حتّى أطرب كلّ من سمعه، سواء من كان حاضراً تلك الحلقة في الاستديو أو المشاهدين، تخيّلت أنّ حتّى الشاشة اهتزّت وتمايلت انسجاماً مع ذلك الصوت الغارق حنيناً لتلك المرابع.
لم يكن الصوت قد شدّنا إليه لوحده، وإنّما الإضافة التي عزّزت جمال الصوت بجمال السيرة والخلق الرفيع، وخاصّة عظيم الوفاء الذي يكنّه لوالدته، إذ أنّه حينما سُئل عن تأريخ عائلته، أجاب بانسيابيّة وصدقٍ يستدعي كلّ هالة الإحترام، دون ادّعاء التغطية على الحقيقة، حين صرّح بأنّ «والدي كان يعمل في طاقم البلديّة، ينظّف الشوارع بالمكنسة التي لا يضاهيها كلّ نجاحي وثروتي وعنفواني اليوم، وأنا أقبّل يديه الطاهرتين صباحاً ومساء، كما لن أنسى والدتي التي كانت تدعو لي من بارئها كلّ صباح: تلزم التراب يصبح بيدك ذهب، وقد كانت دعوتها مستجابة».
ذلك هو ابن بعلبك، وهذا هو الوفاء لأهله ومدينته، وقد اخترت لكم بعض «الردّات» الجميلة التي ردّدها وصدح بها علّها تنال إعجابكم:
شو بحبّك يا زيتوني إنتي يا ضو عيوني
تارك قلبي ببّعلبك وصارت روحي بي جونيه
مشتقلك يا زيتوني وأهلي يللّي ربّوني
تركت جنّة الفردوس ولحقت البيحبّوني
إنّ بعلبك دون شكّ وبلا ريب، تتوق لمجبّيها ومصطافيها، بما لا يقلّ عن توقنا لمهرجاناتها التي تضيء الليل، وتبعث البهجة في القلوب، وتنشر فرحها على منطقة البقاع بأسرها، ولا ننسى «السفيحة» البعلبكيّة و«البوظة» أيضاً التي تمتاز بهما هذه المدينة العريقة، وهما علامة فارقة في المأكولات اللبنانيّة.
تُرى من يجعل سبيلاً لأن تنهض بعلبك من جديد؟ لتحيي مهرجاناتها الرائعة، ويعيد لنا الفرحة، ولتكون عصيّة على من أرادوا لنا التفرقة التي لا ولن تخلّف وراءها غير الذلّ والهوان؟ ويجعل المجد كما هو شأن أهليها متلألئاً بحيث هي حقيقتهم في وهج الرفعة والتآلف والحياة الحرّة الكريمة.
Leave a Reply