بقلم: محمد العزير
من نافل القول إن التنوع والتعدد في أي مجتمع ليسا فقط بديهيين وانما هما مطلوبان خصوصاً في السياقات السياسية والثقافية والاجتماعية، وإنهما أكثر حيوية لمجتمعات ذات طبيعة ديموغرافية وتاريخية خاصة كالمجتمع العربي الأميركي النامي في الولايات المتحدة والمأسور منذ الهجمات الارهابية في الحادي عشر من أيلول 2001، وما تلاها وصولاً إلى تبعات وأد الربيع العربي وتدميره بمجازر مذهبية وإثنية وطائفية زادت في تشويه صورة العربي والعربي الأميركي واعطت المتربصين بهم ذخيرة لا تنضب من الصور النمطية والاتهامات والتعميم، لا سيما وأنهم هدف دائم في هذه البلاد لحلفاء إسرائيل من صهاينة ومسيحيين متصهينين، وبعض ذوي الأهداف الدنيئة من ذوي الأصول العربية أو المهاجرين من دول عربية يجدون لدى تلك الدوائر حضناً دافئاً لحروب أهلية صغيرة، أغلب الظن أنهم لا يفقهون عمق أثرها ما دامت توفر لهم العلاقات والشاشات والظهور.
لكن، ومن باب رب ضارة نافعة، جاء انتخاب رجل الأعمال دونالد ترامب الذي ورث عن أبيه ثروة طائلة ومشاعر عنصرية أطول، ليدق ناقوس الخطر على الديمقراطية في أميركا ككل وليس على الأقليات الإثنية والعرقية والمهاجرين والملونين فقط، وجاءت الانتخابات التشريعية بعد سنتين على انتخاب ترامب لتترجم الوعي الأميركي العام لخطورة الانزلاق نحو سياسات عنصرية قادت أوروبا في القرن الماضي إلى حربين عالميتين مدمرتين، ومغبة الاستلاب أمام صورة «الرجل القوي» التي كانت أميركا تعتقد أنها محصنة منه. كانت نتائج الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي علامة يقظة سياسية واضحة وجاءت نتائجها معاكسة لكل ما يدعو إليه ترامب وتياره العنصري الأبيض الذي استعاد لغة الوطنيات الأوروبية التي مزقت العالم مرتين. الملفت في نتائج تلك الانتخابات أن العرب الأميركيين الذين كانوا لعقد ونصف من الزمن رهائن الخطاب الديني والمؤسسات الدينية المتصلة مع توابعها السياسية بحبل سرة سياسي مع الوطن الأم بكل ما يعتمل فيه من بدائيات وعصبيات وأحقاد وسباق نحو القعر بمسميات وعناوين براقة، أظهروا شجاعة مدنية وسياسية واضحة وانخرطوا في العملية السياسية ترشحاً وتطوعاً وتصويتاً وتبرعاً بطريقة فتحت نافذة أمل كبيرة تتحدى القوقعة والإحباط السائدين، والكل يعرف النتائج التي كان أبرزها وصول أول ثلاث نساء عربيات أميركيات إلى مجلس النواب اثنتان منهن مسلمتان إحداهما تلتزم الزي الديني.
رغم العنعنات والغمز واللمز من قبل مؤيدي ترامب من العرب الأميركيين –معظمهم يؤيدون ترامب لأسباب تتعلق بما يجري في الوطن الأم… ومعظمها طائفي ومتخلف– وبعض قدامى المهاجرين المسلمين الذين يحملون مشاعر حسد وضغينة نحو المهاجرين الجدد من أقرانهم وأبناء جلدتهم –وهي مشاعر لم تكن بحاجة لترامب لتظهر بل هي جزء من التكوين النفسي للمجتمع المهاجر من مختلف الجنسيات– كان الإحساس بالانتعاش السياسي والمؤسسي واضحاً خصوصاً مع حرص المشرعات الجديدات على إبراز هويتهن العربية والتزامهن بقضايا مجتمعهن سواء في المجتمع الجديد أو الوطن الأم. كان من الطبيعي أن تكون فلسطين القضية الأكثر مساساً بالوجدان العربي الأكثر حضوراً خصوصاً وأن إحدى الفائزات، رشيدة طليب، من أصل فلسطيني. كان من الطبيعي أيضاً في كونغرس تعتبره القوى المؤيدة لإسرائيل حديقتها الخلفية أن يتم وضعهن تحت المجهر بحثاً عن هفوة أو كلمة أو حركة تستنفر الإعلام بيمينه ويساره والمؤسسات التي تعتاش على التأييد الصهيوني. لكن من ترشحت وفازت بخطاب واضح وصريح ولم تدوّر الزوايا المبدئية سياسياً لم تكن لتخشى من إعلان موقفها بعدما صارت تحت قبة الكابيتول. كانت مواقفهن وخصوصاً طليب وإلهان عمر واضحة ولم تتعود عليها أروقة الكونغرس سواء في رفض الزيارة التقليدية إلى فلسطين المحتلة، التي تنظمها لجنة العلاقات الأميركية الاسرائيلية (آيباك) كبرى مؤسسات دعم إسرائيل أو الإعلان عن التمسك بالحقوق الطبيعية والإنسانية للشعب الفلسطيني.
كان بديهياً أن تتعرض طليب وعمر لهجمات مركزة من الإعلام، وخصوصاً إعلام اليسار المحسوب على الحزب الديمقراطي الذي تنتمي إليه طليب وعمر، والممسوك من عنقه بيد القوى المؤيدة لإسرائيل . إلا أن ما هو غير طبيعي ان يساهم بعض العرب الأميركيين من فئة الناشطين والإعلاميين في ذلك، عبر مواقف ذميمة تافهة تعكس مدى استلابهم أمام المنحى العنصري ومدى استعدادهم لبيع أي شيء من أجل وظيفة أو طلة تلفزيونية.
لائحة هؤلاء الملكيين أكثر من الملك طويلة، لكن انموذجاً واحداً منها قد يكفي لإعطاء فكرة عن هذا الصنف من المرتزقة العرب الأميركيين. أحد الصحافيين حديثي العهد في المشهد الإعلامي، والذي يعتقد أنه فتح عمورية عندما اعتمد ككاتب مقال في مؤسسة إعلامية أميركية رسمية موجهة للعرب (الصفحة الإلكترونية لقناة الحرة) انبرى مؤخراً ليرد على إلهان عمر التي قالت إن مؤيدي إسرائيل يشترون الكونغرس بالمال مما أثار عاصفة هوجاء ضدها في الإعلام الأميركي الذي اعتبر ربطها بين «آيباك» وبين المال استخداماً لصورة نمطية سلبية ضد اليهود، مما قوبل بأصوات يهودية ليبرالية ترفض ذلك وتفند كيفية استخدام «آيباك» للمال لضمان ولاء أعضاء الكونغرس لإسرائيل.
في مداخلة تجمع بين الذكورية والعنصرية والجهل بالسياسة في أميركا، كتب الصحفي المستجد بالإنكليزية طبعاً (لتصل إلى ولي نعمته) على صفحته في فيسبوك ما حرفيته «المجد لعضو الكونغرس عمر لإعتذارها. الآن وقد عادت الأمور إلى طبيعتها، سؤال فضولي: كيف هناك صلة بين «آيباك» واليهود الأميركيين وإسرائيل في أية حال، بالنسبة لامرأة متحدرة من القرن الأفريقي وتمثل مينيسوتا؟ (هي حرة في التعبير عن رأيها في أي موضوع، لكن المشرعين عادة يحصرون تصريحاتهم وأصواتهم في قضايا لمصلحة ناخبيهم، وربما بلد منشأهم». (انتهى النص).
هنا يبدو أن السؤال الأهم هو: ما هذه الدونية المفرطة من قبل الكاتب الذي سبق له أكثر من مرة أن أتحفنا بمداخلات تحاكي منطق اليمينيين المتشددين والعنصريين البيض في قضايا تتعلق بالمهاجرين والملونين وحقوقهم، وهي تتناقض تماماً مع مواقفه السابقة حين كان يكتب بالقطعة لمواقع وصحف عربية ويهاجم «اللوبي الصهيوني» وينتصر للقضية الفلسطينية التي تبددت لديه في واشنطن.
معيب حقاً أن يبلغ الارتزاق هذا الدرك المنحط، فقط لأن مدير المؤسسة –التي يعمل فيها بالقطعة أيضاً– يميني متعصب دينياً من الذين عينهم ترامب. ومعيب أن يهرف من هو مستجد على المشهد الأميركي بما لا يعرف وأن يتنكر لقضاياه الإنسانية وينكر الحق. ليس المطلوب من شخص كهذا أن ينصر أحداً، وليس هناك من يعّول على قوله أو فعله، هو والكثيرين من أمثاله. لكن حبذا، وليس لنا هنا إلا التمني، لو أنه ينفذ ما نصح به إلهان عمر ولا يتنطح لمواقف تسيء إلى الجهود والمشقات والنضالات الكثيرة التي خاضها العرب الأميركيون ليحموا أنفسهم ووجودهم في عين عاصفة لا تنتهي، ويثبتوا نديّتهم في مجتمعهم الجديد.
Leave a Reply