في صغره كنت أروي له حكايات أشعب وجحا، وامتحنه بهزل: “كيف تضحك بالفصحى؟”، فيجيب: “قهٍ قهٍ؟”، كان هذا جلّ ما يعرفه بلال عن لغة الضاد وعالمها.
بالأمس، فاجأني “بلال” بطلب مساعدته في مسألة لغوية، وهو الضنين علي بطلب المساعدة.
لم يكن الأمر ذا علاقة بلغته الإنكليزية بطبيعة الحال، بل بلغة الضاد التي “تسرب” إلى عالمها مؤخراً من شقوق بعض الصفوف العربية التي انتقاها من ضمن دراسته الجامعية.
كان بلال في الآونة الأخيرة يصارع صيغ الأفعال العربية وأسمائها ويدنو مني في بعض متأخرات الليالي مستفسراً عن شكل وموقع هذه الكلمة أو تلك في الجملة، بحافز من حب التعلم ممزوج برهبة واضحة. وكنت أتعامل مع طلباته بلهجة من التخفيف، بل “الاستخفاف” أحيانا بالمعضلة اللغوية التي يواجهها، تحفزني تلك الرغبة الدفينة في تقديم العربية له على طبق من التبسيط، وخشية أن ينفر منها أو ييأس من إمكانية تعلم مبادئها.. ولكي يحقق حلمي بالإستماع إليه قارئاً وكاتباً، على نسق شقيقه الأكبر “علي” الذي أبدى في سنوات دراسته الثانوية والجامعية رغبة جامحة في اجتياح معاقل لغة الضاد و”دك حصونها” بإصرار وعناد كبيرين، وكان له ما أراد، إذ حاز على “موطئ قدم” فيها أخذ يعززه يوما بعد يوم.
.. قلت، فاجأني بلال بطلب مساعدته على صياغة مطالعة شفوية، عليه أن يتلوها أمام زملاء صفه، ولما سألته عن موضوع المطالعة أجاب: لا يهم. المهم أن أقرأ نصاً أمام زملائي في الصف، ومن بينهم “أجانب” على أن أوزع عليهم مسبقاً فهرساً بالكلمات “الصعبة” مترجمة، لتكون مرجعهم في فهم النص.
أمسكت بالقلم واقترحت تأليف نص لغوي من وحي الأوضاع العالمية المعاشة، وجعلت له عنوانا “أزمة الملف النووي الإيراني”.
وافق بلال وابتسم بعدما ترجمت له العنوان، وانفرجت أساريره، لكنه لاحقني بالاستفسارات المتتالية عن معاني بعض الكلمات التي كنت أملأ بها الصفحة البيضاء. وجد بلال في النص متعتين: واحدة لغوية وأخرى “سياسية”. وراح يدقق ورائي بالجمل والعبارات بحماسة لافتة. ورحت أصوب له، ببعض من الحدة، بعض الألفاظ ومخارج الحروف بلا وعي مني أحيانا، ناسياً أن العربية الفصحى هي لغته “الأجنبية”. لكنه كان بادي الترحيب في معرفة الفارق بين “التاء” و”الطاء” و”الكاف” و”القاف”.
أخذ بلال يتدرب على تلاوة النص الذي مزجت فيه بين الخبر والتعليق، وكانت تلاوته الأولى نسخة قريبة من اللغة العربية لموظفي الخارجية السوفياتية وسفرائها عندما كانوا يتحدثون إلى الإعلام العربي، ويثيرون، بلكنتهم، فرح المشاهدين العرب بهم، فالعرب مثل سائر الأمم، يفرحون لسماع لغتهم على ألسنة الأجانب ولو “بإعجام”.
أحسست وأنا استمع إلى بلال “بالوجود الأجنبي” في بيتنا. ففي تلك اللحظات ذكرني بلال بأولئك السفراء الأجانب الذين كانوا يحرصون على ترويض أفواههم بمطالعات وتصريحات بلغة الضاد الفصحى، على كاريكاتورية نطقهم لها في بعض الأحايين.
كدت في بعض اللحظات أن أنفجر ضحكا، لكني تمالكت نفسي وتعاطيت مع الموقف بجدية مصطنعةخشية أن يتراجع بلال من منتصف الطريق اللغوية الوعرة ويعود إلى “قواعده” الإنكليزية بأقل الخسائر المعنوية الممكنة.
عكف بلال على “دراسة النص” ونضد فهرسا أنيقا بالمفرادات “الوعرة” لكي يعزز به قدرته على إقناع زملائه بأنه لا يلغو لغوا، بل يعني ما يقول، وبأنه قد حصّل بالجهد والاطلاع والسؤال رصيدا من المفردات العربية الرفيعة المستوى، وأن عليهم أن يفهموها لأجل فهم نصه المقروء.
سألته: هل تتوقع استقبالا سلسا من زملائك لنصك ومفرداته فأجاب واثقا: لِم لا؟ ها هو الفهرس كفيل بالإجابة على أي غموض في معاني المفردات. بعض زملائي حدثونا عن الطبخ والتسوق وهم من أصول عربية. وأنا سأحدثهم عن “الملف النووي الإيراني” وعليهم أن يبذلوا جهدا ليفهموا، مثلما بذلت جهدا لأفهم وأتلو النص أمامهم.
شعرت بأن بلال قد انتفض على عدم إلمامه المبكر بلغة الضاد وراودتني في تلك اللحظة رغبة في إسماع بلال بيت المتنبي:
إذا غامرت في شرفٍ مَرومِ فلا تقنع بما دون النجوم
إمعانا في تشجيعه على اقتحام قلاع اللغة وحصونها، وأن أقوم بترجمة فورية (غير شعرية) للبيت الشعري ذائع الصيت، لكنني تراجعت، وتذكرت المأثور الشعبي اللبناني القائل “أكل العنب حبة حبة” وقلت في سري: اصمت يا رجل ودع بلال يتحف زملاءه بما تيسر عن أزمة الملف النووي الإيراني، ولا تزجه في “أزمة ملف لغوي” عويصة، ودع المتنبي وشأنه إلى وقت لاحق!
Leave a Reply