إنها مفاوضات الاضطرار التي تنطلق من “قناعة” لدى الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني مفادها: ليس لدينا ما نخسره. الاسرائيلي القوي يذهب الى “المفاوضات المباشرة” متمسكا بالرؤية الأمنية التي يتحتم أن تحكم أي حل مؤقت أو دائم للصراع مع الفلسطينيين. والفلسطيني الضعيف بما لا يقاس نسبة الى الاسرائيلي، يذهب متمسكا بشرط الاستمرار في تجميد الاستيطان الذي لا يعده شرطا، وعينه على حل ينهي احتلال أراضي العام ١٩٦٧ ويؤدي الى “بروز دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية وقابلة للحياة تعيش جنبا الى جنب في أمن وسلام مع دولة اسرائيل اليهودية وجيرانه الآخرين” على حد توصيف الادارة الأميركية، والذي يشكل الرصيد اليتيم أو عامل “القوة” الأوحد في جعبة محمود عباس الذي لم يعد يملك أن يتنازل عن المطالب الفلسطينية البديهية، والا اعتبر أنه يوقع على انهاء قضية شعبه مرة واحدة والى الأبد.
المشهد ليس ورديا، وعدا “حديقة الورود” في البيت الأبيض التي استضافت افتتاح أحدث جولة من المفاوضات المباشرة بين الاسرائيليين والفلسطينيين بحضور الراعي الأميركي وشهود من “عرب السلام” فإن التشاؤم هو الطابع المسيطر على هذه الرحلة الجديدة من التفاوض منذ خطوتها الأولى.
الرئيس الأميركي يريد أن يسجل لنفسه ولارادته أنه بذل جهدا وجمع طرفي الصراع على غرار مافعله سلفاه الجمهوري والديمقراطي. خلال العقدين الأخيرين وهو أي أوباما افتتح موسم التفاوض بكلام شديد التحفظ عندما اعتبر ان لا النجاح ولا الفشل حتميان لكن المحاولة تستأهل القيام بها. أوباما أيضا ليس لديه ما يخسره مع المحاولة وهو ينطلق من قاعدة بسيطة جدا: اذا لم نقم بالمحاولة، فالفشل مضمون، من غير الحاجة الى القول ان النجاح غير مضمون. فهذا متروك لسنة من التفاوض بمده وجزره، وتعقيداته وحتى انتهاء المهلة المحددة تكون الإدارة الأميركية، الحالية أو المقبلة، قد أعادت ترتيب أوضاعها المرتبكة في منطقة الشرق الأوسط اثر غزويها لأفغانستان والعراق وما جلباه من كوارث سياسية ومالية لإدارتي بوش الابن الجمهورية وأوباما الديمقراطية.
ما يسترعي الانتباه أن مسؤولين في الادارة الأميركية كانوا يتحدثون عن انطلاقة جولة أخرى من التفاوض على المسارين السوري واللبناني، حتى قبل وصول المتفاوضين الاسرائيليين والفلسطينيين الى العاصمة الأميركية. ثمة أيضا تقارير عن نية الإدارة الأميركية جمع كل الأضداد في المنطقة تحت سقف مؤتمر دولي تشارك فيه اسرائيل الى جانب تركيا وايران وأفغانستان والسعودية لمحاولة ادارة الصراع في المنطقة وعليها، بوسائل أكثر عقلانية وأقل دموية، لكن الإدارة الأميركية لا تنطلق من أوهام أيضا حول هذا المنحنى الذي يجري تقييم الفائدة المرجوة منه قبل سلوكه.
تدرك الادارة الأميركية أن التعقيدات المحيطة بالوضع الاقليمي لا يمكن الاحاطة وبها وحلحلتها في مؤتمر أوفي جولة تفاوض، وهي لهذا السبب، طوت الصفحة الرئيسية من وجودها العسكري في العراق وأعلنت عن سحب الوحدات القتالية وانهاء مهمتها، و”تواضع” الرئيس أوباما في عدم اعلان اكتمال المهمة، لأن الأمر كان سيكون مدعاة للسخرية وتذكيرا بمهزلة سلفه الأخرق جورج بوش الابن الذي أعلن “إنجاز المهمة” (أي احتلال العراق) ووقف العمليات العسكرية بعدهبوطه على متن حاملة طائرات في أيار من العام 2003. واضح أن المهمة لم تنجز وأن الحرب استمرت وسقط أكثر من ٤٠٠٠ قتيل أميركي وكلفت أكثر من تريليون دولار.
الآن يشعر اوباما بالاطمئنان (النسبي طبعا) لأنه يفي بوعده في انهاء حرب العراق وسحب القوات المقاتلة وفق الموعد المضروب (نهاية آب ٢٠١٠) ويكرس جهوده للوضع الاقتصادي الأميركي المتدهور الذي بات يشكل عامل القلق الرئيس للأميركيين. لا يهم هنا أي عراق خلفت هذه الحرب وأكثر المسؤولين الأميركيين “تفاؤلا” نائب الرئيس جوزيف بايدن يبشر بأن الحكومة العراقية قد تتشكل في غضون شهرين!
وبالعودة الى المفاوضات المباشرة بين الاسرائيليين والفلسطينيين يمكن الزعم “بلا أوهام”، أنها حاجة أميركية أولا واسرئيلية تالياً للتغطية على السيناريو الذي يجري اعداده في المطابخ المشتركة للدولتين الحليفتين، لما ستكون عليه صورة الشرق الأوسط بعد الانكفاء الأميركي من العراق والتخفف من أعباء الانتشار العسكري المكشوف، ثم من أفغانستان التي قد يحكمها طالبانيون “معتدلون” تفاوضهم الادارة الأميركية حاليا وأقصى ما يمكن أن تساعد فيه الادارة الأميركية آنذاك هو منح اللجوء السياسي للحاكم الصوري الحالي حامد كرزاي.
أما الملف الأكثر سخونة وتعقيدا الذي سيستغرق الكثير من الدراسة والتحليل قبل اعتماد حلول له في الأشهر القليلة المقبلة، فهو الملف النووي الايراني الذي يعتبر “ابو الملفات” في منطقة شديدة الحساسة للمصالح القومية الأميركية. وقد أفصح طوني بلير (رئيس الوزراء البريطاني السابق) ومنسق عمل الرباعية الدولية عما تضمره أميركا وحلفاؤها في هذا الخصوص، عندما أكد في كتاب “يومياته” الذي نشر مؤخرا أن على العالم الاستعداد لضربة عسكرية ضد ايران اذا أصرت على المضي في برنامجها النووي خلافا لرغبات الغرب وشروطه.
نحن إذن، أمام مفاوضات اسرائيلية فلسطينية يحكمها الفشل المسبق وفق كل التوقعات. وأمام أزمة حكومية دستورية عراقية لا مخرج لها في الأفق المنظور. وترجمتها قد لا تتأخر بموجات جديدة من الصراع المذهبي الدموي الذي يهدد بحرائق كبيرة في دول مجاورة، رأينا نموذجا تجريبيا عنها في أزقة العاصمة اللبنانية مؤخرا.
ما شهدته المنطقة منذ حرب الخليج الأولى (حرب تحرير الكويت) وصولا الى غزوي أفغانستان والعراق، بعد ١١ أيلول ٢٠٠١ كان “عظيما” وأرسى الأسس لتغييرات جيوسياسية مزلزلة، لكن الآتي يبدو أعظم، لذا تمارس القوى المنخرطة في لعبة الصراع الاقليمي والأممي تمارينها اليومية للتخفف من أية أوزار سياسية أوعسكرية استعدادا لـ”يوم الحشر” الاقليمي الذي لم يعد بعيدا!
Leave a Reply