«كلام حق يُراد به باطل». لم ينطبق القول بحذافيره نصَّاً وروحاً كما إنطبق على ما يُسمَّى مهرجان «إحقاق الحق» المزعوم الذي عُقد في طرابلس والذي أهدَر دم كل معارض للتكفيريين والسلفيين أو كل حليف للحكومة السورية في المدينة التي تتحول يومياً إلى «إمارة التكفير والهجرة» منزوعة التعدُّدية والتنوُّع والرأي الآخر!
لقد أحلّ المهرجان دم العلويين في طرابلس وطوَّب المجرم الإرهابي قاتل الجنود اللبنانيين أحمد الأسير زعيماً للسُّنة وكأنَّ هذه الطائفة الكريمة، التي نصرت يوماً جمال عبد الناصر والعروبة، قد خلَتْ من مشايخ وطنيين مانعين للفتنة. حتى مفتي طرابلس الشيخ مالك الشعَّار لم يسلم من التهديد لأنَّه قال إنَّ الصراع سياسي وليس مذهبي. وأوَّل «تباشير» هذا المهرجان الحاقد جاءت عبر الإغتيال السياسي في وضح النهار ضد عضو جمعية «العمل الإسلامي» المؤيِّد للمقاومة الشيخ سعد الدين غيَّة بإطلاق رصاصات عليه من قبل مجرمَين كانا على متن درَّاجة ناريَّة، فإستشهد مضرَّجاً بدمائه وملاقياً مصير غيره من عقلاء المدينة مثل الشيخ عبد الرزاق الأسمر وحسام الموري اللذين وقفا مع الحق في وجه منافق جائر، وكأنَّ دمهما مستباح ولا يتبعان نفس الدين والطائفة التي يدَّعي الفاعلون حمايتها.
وكالعادة مرَّتْ جريمة القتل الجديدة من دون رد فعل يُذكر من قبل «الزرقاويين» ومُدَّعي العدالة، كما مرَّتْ سابقاً جرائم التكفيريين بإطلاق النَّار على أقدام العمَّال العلويين الآتين من خارج طرابلس وهم لا ناقة لهم ولا جمل! معظم فريق «الدنيا هيك» لم يسمع بإغتيال الشيخ غيَّة ولم يُكلِّف نفسه إدانة الجريمة ولو بكلمة، ولكن لو إنقلبتْ الآية وجُرح أصبع أحد من فريق «١٤عبيد زغار» لقامتْ الدنيا ولم تقعد ضد محور المقاومة و«الولي الفقيه» ومؤامرة إيران! لقد استبيحتْ طرابلس بعد أنْ أضحتْ حجر شطرنج بيد السعودية التي تريدها رهينةً من أجل الإستعداد لمعركة أخرى ضد النظام في سوريا برغم الهزائم المتكرِّرة وخيبات الأمل السعودية التي لم تعد تحصى، إلا أنَّ بندر بن سلطان يريد فرصة جديدة تضع سوريا وشعبها على المزيد من خطوط النار والموت والدمار فقط من أجل خلق معطيات جديدة على الأرض تسبق مؤتمر «جنيف ٢».
وبالرغم من زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري للرياض وكلامه المنمَّق لإرضاء آل سعود، إلا إنَّهم ظلوا حانقين من تراجع أميركا عن الإعتداء العسكري ضد سوريا والإتصال الأميركي الإيراني. ولهذا السبب قاموا بالتعاون والتنسيق والتكافل مع إسرائيل وفرنسا، لإفشال الإتِّفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية المعروفة (٥+١) ووقفوا جنباً إلى جنب وكتفاً بكتف مع بنيامين نتنياهو الذي يكاد يفرِّط بعلاقة إسرائيل مع أميركا من أجل منع أي إتفاقٍ مع إيران من شانه أنْ يرفع عنها العقوبات الدولية ويقرٌّ بقيمتها ودورها الإقليمي في المنطقة مما يُعزِّز قدرات جبهة المقاومة والتصدِّي الحقيقية. لقد شاركت الرياض في «عدوان ثلاثي» هذه المرَّة ضد دولةٍ إسلامية مع إسرائيل وفرنسا التي يحكمها اليوم أسوأ نوع من أنواع الإشتراكية الإستعمارية.
ووسط هذا الجو المضطرب وفي أسوأ توقيت عرفه تاريخ المنطقة و«شبيه الوطن» إرتأى ميشال سليمان أنْ يلبِّي دعوة حكَّام السعودية لزيارة الرياض رغم الإهانة المذلَّة والصفعة التي وجَّهوها له من قبل بإلغاء زيارته الأولى من دون تفسير أو إعلان موعد جديد. وفي الوقت الذي يشعر فيه نصف اللبنانيين بأنَّ النظام السعودي متورِّط بالدماء السورية واللبنانية الزكيَّة عبر دعم الكفَرة والمنافقين، لم يجد سليمان غضاضةً في تلبية الدعوة السعودية الجديدة وبشروطٍ أقل ما يقال فيها أنَّها غير سيادية إشتملتْ على منع مرافقة وزير الخارجية عدنان منصور صاحب المواقف الذهبية المعروفة من الشقيقة سوريا ضد أكبر ناكري جميل في التاريخ من ساسة لبنان والعالم العربي! ولكن لم العجَب، فمتى كان رئيس لجمهورية الوطن المنقوص في السيادة يلبِّي مطالب الشعب الذي لا ينتخبه ولا يرضى عنه بل يأتي الى الحُكم نتيجة تسوياتٍ دولية خارجية؟
وكم كان منفراً ومذِّلاً منظر ميشال سليمان وهو يلتقي جهاز الدولة السعودية بكامل عدَّته ومن ضمنه الوزراء بينما لا يرافقه وزراء مقابلون بل مجموعة من المستشارين الذين لا جدوى منهم إلا زيادة عدد في الطيَّارة! أيعقل أنْ يعلم وزير الخارجية اللبناني بالزيارة «التاريخية» من الإعلام وليس عبر الأصول الدستورية والبروتوكولية بإعتبار أنَّ الرحلات الخارجية تقع ضمن إختصاصه ومجال عمله؟! والله بلد عجيب في غرابته. تصوروا لو أنَّ بلداً ما طلب من رئيس أميركا، أو حتى أقل دولة في العالم، عدم إصطحاب وزير الخارجية معه، فما سيكون ردُّ فعله؟! لكنَّ الطلَب كان «سمناً وعسَلاً» على قلب ميشال سليمان الذي حاول الترويج بعد عودته الميمونة أنَّ الزيارة كانت ناجحة رغم فشلها المزري الظاهر المتمثِّل بتصلُّب سعودي في تشكيل حكومة يتمثَّل فيها «حزب الله» إلى أنْ تنتصر عائلة سعود في سوريا، كما قال السيِّد حسن نصرالله في كلمته عشية العاشر من مُحرَّم.
غير أنَّ الإذلال السعودي لم يتوقَّف عند حد مُعيَّن، إذ تمَّ إحضار وجلب سعد المهاجر ليجلس على يمين سليمان وعلى عينك يا تاجر ولإعلام من يهمُّه الأمر بأنَّه رجلها الاوَّل في لبنان من دون منازع. ولم يفكّ المراقبون حتى هذه اللحظة طلاسم اللغز السعودي بإظهار سعدو من عالم الخفاء إلى عالم الواقع وبأيَّة صفة؟ هل بصفة ممثِّل لبلده الأوَّل السعودية، أم بلده الثاني الذي لم يختره، لبنان؟ هل هو من حاشية البلاط أم فرق عملة أم ممثل لمصالح بلده السعودي في لبنان؟ ثمَّ ما نفع وجوده هناك، هل ليلقي مداخلة لغوية بليغة وهو المعروف بفصاحة كلامية وقدرات خطابية لا تُضاهى على أساس أنَّ أبا متعب قليل الكلام ولا يُعرف بطلاقة اللسان؟ لقد تصرَّف تيار «الزرق» وكأنَّ ليلة القدر مرَّتْ عليه رغم أنَّ إسم الحريري لم يُدرج في البيان الرسمي إلاَّ إنَّ الصورة تبقى عنده أصدق أنباءً من الكلام وهي دليل على “المكرمة” السعودية..
الإهانة الاخرى كانت موجَّهة للمسكين تمَّام سلام المكلَّف بتشكيل الحكومة منذ ثمانية أشهر من دون بوادر خيرٍ تلوح في الأفق. فوجود سعد الحريري مع معلِّمه يعني أنَّ لا دور له ولا يمثِّل السعودية التي تقف على مسافةٍ واحدة من جميع اللبنانيين طبعاً! والسؤال المطروح هو هل علم سليمان بوجود الحريري، وهذه مصيبة وَإِنْ كان لا يعلم فتلك مصيبةٌ أعظم! ومهما يكن، بئس بلد لا يمكنه الاعتماد على نفسه من دون راعٍ إقليمي ودولي.
كان الأجدى بميشال سليمان أنْ يسعى لحماية بلده من التجسُّس الاسرائيلي الخطير الناجم عن وجود أبراج مراقبة في الجنوب برعايةٍ دولية، وخرق إسرائيل العميق لكل «داتا» الإتصالات وشركات الهاتف وتحكُّمها بالمكالمات الهاتفية إلى درجة إجراء مكالمات من هواتف المشتركين من دون علمهم، وإستراق السمع عليهم ولو كان الجهاز الهاتفي مُغلقاً! وهذا بالضبط ما استندت اليه «ميليشيا» فرخ المعلومات والتي أعطتها إلى «المحكمة الدولية» كوثائق إتِّهام لعناصر مناصرة للمقاومة. هذه المليشيا لم تسمع باغتيال الشيخ غيَّة الأخير لأنَّ مهمتها التي رسمها أشرف ريفي لها هو ملاحقة ومطاردة حلفاء سوريا فقط. العدو قادر على الوصول إلى غرفة نوم كل لبناني والوضع من الخطورة لحد أنَّ نواب لجنة الإدارة والعدل الذين اجتمعوا لبحث المسأَلة تركوا هواتفهم الخليويَّة خارج قاعة الإجتماع، بينما كان المسؤولون مشغولين بكيفية إرضاء الراعي السعودي الغاضب.
لقد استهلكت المؤامرة على سوريا كل طاقتها ولن تفلح في إسقاط النظام والملفتْ أنَّ كلام السيِّد حسن التصالحي الداعي إلى التلاقي وعدم الخوض في الأحلام غير السعيدة، جاء الرَّد عليه سريعاً من قبل سعدو المسرور لتوِّه بجلسة مع ملكه واصفاً خطط نصر الله «بأضغاث أحلام».
هي أضغاث خيال تأتي من عقول سياسيي «ربَّات الحجال» وما أكبر الفرق بين الثَرى والثُريا.
Leave a Reply