وليد مرمر – «صدى الوطن»
ربما لم يكن فريد زكريا الشخص المناسب ليحاور توني بلير حول حرب العراق، ذلك أن الصحافـي الهندي-المسلم كان شخصيا من المتحمسين لغزو العراق. فلقد قال حينها: «إن المكان (العراق) فـي غاية الإختلال.. أي تغيير سيكون جيداً. التدخل الأميركي فـي المنطقة سيكون للأصلح».
لكن زكريا -كما الكثيرين- أصبح لاحقا من المنتقدين للحرب وللطريقة التي أدار بها بوش احتلال العراق سيما قرار بريمر بحل الجيش العراقي.
ربما كانت طبقة الإنتلجنسيا أجرأ على النقد الذاتي من بعض السياسيين الذين لا يمارسون فعل النقد والندامة والرجوع إلى الذات إلا بعد تركهم للعمل السياسي، وفـي جيمي كارتر خير مثال.
لقد أعاد زكريا عام ٢٠١٠ جائزة الحرية المتعلقة بالتعديل الأول من الدستور الأميركي fist amendment freedom prize والمسماة «جائزة هيوبرت هامفري» والتي منحتها له رابطة مكافحة التشهير اليهودية، وهي المدافع الشرس عن كل ما يمس إسرائيل وتتهم أي نقد للسياسة الإسرائيلية بمعاداة السامية.
رفض زكريا للجائزة جاء بسبب معارضة الرابطة الصارمة لبناء مسجد ومركز ثقافـي إسلامي على بعد بلوكين عن مبنى التجارة العالمية الذي فجر فـي ٢٠٠١. وللمفارقة فإن التعديل الأول من الدستور الأميركي هو الذي يصرح بوضوح بحرية المواطن بالدين والتعبير والصحافة والتجمع ومعارضة الحكومة. بيد أن زكريا ما يزال عضوا فـي «مجلس العلاقات الخارجية» أو ما يسميه البعض «حكومة العالم» بسبب القوة والنفوذ والتأثير الكبير للمجلس الذي أسسه روكفلر ومورغان فـي مراكز صنع القرار الأميركي. وبالتالي فإن مواقفه ليست «قطعية الدلالة» حسب التعبير الفقهي.
لكن فريد زكريا قرر هذه المرة المواجهة فـي وثائقية: «الطريق الطويلة إلى جهنم: حرب أميركا فـي العراق» الذي بثته «سي أن أن» الإثنين ٢٦ أكتوبر المنصرم، حين فاجأ بلير بالسؤال:
– بما إنه لم يثبت أنه كان لصدام أسلحة دمار شامل٫ هل كان الذهاب إلى الحرب إذن خطأ؟
أجاب «كلب بوش المطيع» حسب تسمية الشعب البريطاني له:
– يمكنني القول إنني أعتذر عن حقيقة أن المعلومات الإستخباراتية التي وصلتنا كانت خاطئة لأنه رغم أن صدام كان قد استعمل الأسلحة الكيمياوية بضراوة ضد شعبه فإن برنامج صنع الأسلحة التي ظننا بوجوده لم يكن موجودا، فلذا يمكنني الاعتذار عن هذا. كما يمكنني الاعتذار عن الأخطاء فـي التخطيط وبالتأكيد فـي فهم ما يمكن أن يحصل فـي اللحظة التي يسقط بها النظام..
هنا بادر زكريا بالسؤال:
– يعتقد الناس أن احتلال العراق كان السبب الرئيس وراء منشأ «داعش» ماذا ترد على هذا؟
أجابه بلير:
– أعتقد أن هناك مقدارا من الحقيقة فـي هذا الرأي، لكنني أعتقد أنه يتحتم علينا أن نكون فـي غاية الحرص وإلا فإننا لن نفهم ما يحصل فـي العراق وسوريا اليوم، بالطبع لا يمكنك القول أننا إذ أزحنا صداماً فـي ٢٠٠٣ فإننا مسؤولون عن الوضع فـي ٢٠١٥، لكنه من المهم أيضا أن نلحظ أولا أن «الربيع العربي» الذي بدأ فـي ٢٠١١ سيؤثر فـي العراق اليوم، وثانيا أن «داعش» فـي الحقيقة، قد أصبحت بارزة من قاعدتها فـي سوريا وليس العراق وهذا يفضي بي إلى النقطة الرئيسة التي أظنها بغاية الأهمية عندما نفكر فـي السياسة اليوم، وهي أننا جرّبنا التدخل وإرسال الجيوش إلى العراق، وجربنا التدخل وعدم إرسال الجيوش إلى ليبيا، ولم نتدخل البتة فـي سوريا، لكننا طالبنا بتغيير النظام. ليس من الواضح لدي ما إذا فشلت سياساتنا… أو أن السياسات البديلة نجحت بشكل أفضل….
من الجلي أنه لم يدر بخلد بلير أن المحاكم الأميركية سوف تجبر هيلاري كلينتون على إظهار وكشف رسائلها الألكترونية بسبب قضية استعمالها لبريدها الشخصي فـي مراسلاتها العامة أبان تسلمها لوزارة الخارجية. ففـي مذكرة مسربة نشرتها صحيفة «دايلي مايل» البريطانية يظهر بوضوح أن بوش وبلير اتفقا على غزو العراق قبل سنة كاملة من بدء الحرب. المذكرة المسربة هي رسالة إلكترونية مرسلة من وزير خارجية أميركا وقتها كولين باول إلى جورج بوش قبل أسبوع من اجتماعه الشهير بمزرعته فـي «كراوفورد-تكساس» مع رئيس وزراء بريطانيا حينها، توني بلير.
وفـيما يلي ترجمة الرسالة:
التاريخ: الأول من نيسان ٢٠٠٢
مذكرة إلى الرئيس
من: كولين باول
الموضوع: إجتماعك مع رئيس وزراء المملكة المتحدة توني بلير المتوقع فـي نيسان ٥-٧، ٢٠٠٢ فـي كراوفورد.
توني بلير يتشوق إلى الوقت الذي سيقضيه وعائلته معكم لترسيخ علاقته الشخصية معك ومع لورا. إن موافقة قصر باكنغهام على هذة الرحلة رغم موت أم الملكة هي خير شاهد على الأهمية التي تعلقها الحكومة البريطانية على لقاء بلير معكم. يريد بلير أن يناقش: أفغانستان، العراق، الشرق الأوسط، روسيا، وتوسيع الناتو والتجارة والتنمية.
إن بلير ما يزال يقف معكم ومع الولايات المتحدة فـيما نتقدم فـي حربنا على الإرهاب وعلى العراق. فهو سيقدم لكم الخطوط العريضة الإستراتيجية والتكتيكية والمتعلقة بالشأن العام والتي يظن أنها ستعزز التأييد الدولي لأهدافنا المشتركة.
إن بلير والمملكة المتحدة معنا فـي أفغانستان على المدى البعيد. لقد تعهد فورا بإرسال ١٧٠٠ جندي رغم تحذير خبرائه من أن القوات البريطانية منتشرة فوق طاقتها. إن المملكة المتحدة ترحب بالمساعدات العملية السياسية والعسكرية والمالية التي قدمتها الولايات المتحدة حتى تتولى تركيا قيادة «قوات المساعدة الدولية» فـي أفغانستان.
بما خص الشأن العراق فإن بلير سيكون معنا لو اضطررنا للخيار العسكري. إنه مقتنع بنقطتتين: الخطر حقيقي، النصر على صدام سيمهد لإنجازات إقليمية أكبر.
ففيما عدا وزيري خارجيته ودفاعه، فإن حكومة بلير تشير إلى انقسامات كما إن حزب العمال والرأي العام البريطاني غير مقتنعين بأن التدخل العسكري مبرر حالياً.
من الممكن أن يقترح بلير أفكارا حول (١) كيفـية جعل تهديدات العراق الحالية للمجتمع الدولي قضية عامة تحظى بمصداقية، (٢) كيفـية إبقاء الدول المجاورة للعراق معنا (٣) الدعوة لكسب مباركة مجلس الأمن الدولي بما يعزز التأييد لنا فـي المنطقة وفـي بريطانيا وفـي أوروبا، و(٤) إثبات أننا قد فكرنا بـ«ما بعد الحرب».
لقد عانى بلير من بعض الإرباكات الداخلية. إنه ملوم فـي بلده لخفقانه بإصلاح التقصير فـي الخدمات العامة. إن نسبة التأييد له قد تدنت إلى ما دون الخمسين بالمئة. إن الإعلام ينتقده بشدة بسبب كونه مقربا جدا من الولايات المتحدة، ومتعجرفاً، و«محباً للرئاسة» (هذه الأخيرة ليست بمديح فـي سياق المفهوم البريطاني) وغير مبال بقضايا تهم الناخبين.
يعلم بلير أنه قد يضطر لدفع ثمن سياسي بسبب تأييده لنا فـي العراق، وهو بالتالي يود أن يخفف من وطأته. لكنه سيظل بجانبنا فـيما خص القضايا الكبيرة. إن ناخبيه سيتوسمون إشارات بأن بريطانيا وأميركا شريكان ندان فـي العلاقات المميزة.
انتهت رسالة باول
لقد وضع «اجتماع كراوفورد» اللمسات شبه النهائية على جريمة العصر: غزو العراق. كانت بعض الإجتماعات بين بوش وبلير تتم فـي غاية السرية. حتى ان كبار مستشاري بلير الذين كانوا معه لم يحضروها. السير كريستوفر ماير، سفـير بريطانيا فـي الولايات المتحدة وقتئذ كان فـي كراوفورد، ولكنه أُبعد عن اللقاءات المهمة حسبما أبلغ لجنة «تشيلكو» البريطانية للتحقيق حول دور بريطانيا فـي العراق. قال لـ«تشيلكو» إن إبعاده يعني أنه يجهل «حتى هذا اليوم أي مدى من التقارب فـي وجهات النظر عُمد بالدم فـي مزرعة كراوفورد».
نعم لم يفت بلير أن الأسلحة الكيمياوية العراقية التي تحدث عنها لزكريا كانت تُصنع ضمن برنامج نووي عراقي-بريطاني مع حكومة سلفه مارغريت تاتشر. ومن أراد فليراجع مكتبة المحفوظات الوطنية فـي «كيو» Kew غربي لندن وليطالع وثيقة تم الإفراج عنها مؤخرا والتي تفـيد أن المملكة المتحدة كانت تساعد صدام على انتاج غاز الخردل خلال حربه مع إيران والذي تسبب بموت عشرات آلاف الإيرانيين خلال الحرب. لقد قامت الشركة البريطانية «وير بامبس» Weir Pumps بتزويد معدات لانتاج الغاز لشركة هندية على أن تبني هذه الشركة مصنعا للأسلحة الكيمياوية فـي سامراء-العراق تحت ستار بناء مصنع للمبيدات الحشرية. لم يفت بلير هذه الجريمة ولكنه لا شك يعمل بنصيحة غوبلز، وزير إعلام هتلر: إكذب ثم إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس»!
يشير بلير بكل وقاحة فـي رسالة باول، كيف سيحاول جر المجتمع الدولي لمباركة الحرب و«إثبات أننا قد فكرنا فـيما بعد الحرب». نعم لقد فكر بلير وبوش فـيما بعد الحرب من فوضى وهرج ومرج وإلغاء للمؤسسات وممارسة الفساد وبث الفرقة والنزاع الطائفـي ودعم الإرهاب المتأسلم. بل إن هذا كان من أهم أهدافهما غير المعلنة. ولقد تكرر السيناريو فـي ليبيا حيث تحولت من وطن إلى مجموعات من العشائر والقبائل العرب والبربر المتطاحنة. والسيناريو يتكرر فـي سوريا من غير أفق حتى الآن لأي حل مرتقب. ولا تشير الرسالة بأي شكل من الأشكال إلى ديكتاتورية صدام تجاه شعبه الذي يتوق إلى الحرية ولا إلى نشر الديمقراطية المزعوم. بل تفـيد إلى إن «النصر على صدام سيمهد لإنجازات إقليمية أكبر» وبالطبع هذه الإنجازات هي فـي صالح المحتل وليس الشعب العراقي المضطهد.
بعد نشر البريد الألكتروني بين باول وبوش سارع عدد من البريطانيين سيما الذين فقدوا أبناء فـي العراق إلى ملاحقة بلير سياسياً وقضائياً كخائن وكمجرم حرب. أما ملايين العراقيين الذين قضوا مرضاً وقتلاً وتشريداً بسبب الحصار والغزو فـيكفـيهم اعتذار بلير فـي لقائه مع زكريا… فالعرب شعب مسامح… والمسامح كريم!
Leave a Reply