محمد العزير
في عز الصخب السياسي المتصاعد في واشنطن العاصمة على خلفية الانقسام حول تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في أسباب ودوافع الاقتحام اليميني المتطرف العنيف لمبنى الكونغرس لمنع المصادقة على انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة في السادس من كانون الثاني (يناير) الماضي، وفي ظل التوتر السياسي والحزبي المتواصل في أميركا منذ رفض دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ومع عودة المخاوف من الانتشار المتسارع لمتحور «دلتا» من «كوفيد» والذي فرمل خطوات العودة إلى الحياة الطبيعية في ولايات كثيرة، ضربت عاصفة سياسية مفتعلة النخب السياسية والبرلمانية والحزبية الأميركية على المستويين الفدرالي والإقليمي، والتي هبت لنصرة إسرائيل «المدللة» لدرء الخطر الداهم من شركة آيس كريم!
بداية هذا الأسبوع، أعلنت شركة «بن آند جيري» لإنتاج الآيس كريم والمعروفة بسياستها الليبرالية وتأييدها للقضايا الإنسانية والحقوقية، أنها اعتباراً من آخر العام المقبل ستتوقف عن بيع منتجاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس، تماشياً مع «قيمها» وأنها لن تجدد وكالة التوزيع للشركة الإسرائيلية، وستبحث عن طريقة للاستمرار في البيع في إسرائيل نفسها.
وقع الخبر كالصاعقة على مؤيدي إسرائيل في أميركا، وتسابق الديمقراطيون والجمهوريون على الاستنكار والتهويل. ودبت حيوية فائقة في القنوات السياسية والحزبية والإعلامية على كافة المستويات لملاقاة صيحات الحرب وصرخات الغضب المنطلقة على اعلى المستويات في تل أبيب.
الرئيس الإسرائيلي المنتخب حديثاً إسحق هيرتزوغ اعتبر قرار الشركة التي يملكها يهوديان أميركيان من ولاية فيرمونت بمثابة إعلان حرب، فيما تعهد رئيس الحكومة الجديد نفتالي بينيت برد إسرائيلي هجومي واصفاً القرار بأنه مقاطعة لإسرائيل، وزاد عليه وزير الخارجية يائير ليبيد بالقول: هذا استسلام معيب أمام معاداة السامية و«بي. دي. اس» وكل ما هو خاطئ في سياق معاداة إسرائيل ومعاداة اليهود. كذلك كانت مواقف بقية الوزاء وأعضاء الكتل الصهيونية في الكنيست.
قابلت هذه المواقف حملات للمنظمات الصهيونية والمؤيدة لإسرائيل في أميركا من «آيباك» وسلالاتها التي أطلقت حملات إعلامية وإعلانية ضخمة داعية أنصارها إلى الضغط بكل الوسائل على ممثليهم التشريعيين في الكونغرس ومجالس الولايات إلى محلات السمانة والبقالة اليهودية الملكية التي أعلنت مقاطعتها لمنتجات الشركة.
وعلى الرغم من الموقف المدروس لوزارة الخارجية الأميركية التي أكدت إصرار إدارة بايدن على رفض حركة مقاطعة إسرائيل بشدة لأنها تستفرد بإسرائيل بغير حق، على حد قول المتحدث ند برايس، مقابل إعلان حرصها على حرية التعبير في أميركا، انطلقت من واشنطن حملة هستيرية بقيادة سفير إسرائيل غيلاد إيردان الذي كان وزيراً للشؤون الاستراتيجية في حكومة بنيامين نتنياهو حين اتخذت شركة تأجير البيوت السياحية Airbnb قراراً مماثلاً عام 2018 وتولى التصدي له بنجاح.
سارع إيردان إلى تسطير رسائل عالية النبرة إلى حكام ووزراء العدل في 35 ولاية أميركية لديها تشريعات تحظر أية مقاطعة لإسرائيل طالباً منهم تطبيق هذه القوانين فوراً ومقاطعة «بن آند جيري» ومعاقبتها.
وتحولت أروقة الكونغرس واستديوهات محطات التلفزة والإذاعات إلى منابر عكاظية لمئات السياسيين والإعلاميين الذين تراوحت مواقفهم بين مقاطعة منتجات الشركة وبين اتخاذ تدابير عقابية ضد كل من تسوّل له نفسه انتقاد إسرائيل بالتوازي مع تطاير مشاريع القوانين المشابهة في المضمون في مختلف عواصم الولايات.
الغياب الرسمي العربي دبلوماسياً لم يكن مفاجئاً في زمن «السلام الإبراهيمي» ولا غياب أي نبض عربي أميركي يواكب الحدث. الملفت أن رد الفعل شبه اليتيم في واشنطن كان على لسان رئيس منظمة «جاي ستريت» اليهودية الأميركية غير الموالية للسياسة الإسرائيلية، جيرمي بن عامي، الذي قال إنه «ليس من معاداة للسامية التمييز بين إسرائيل وبين المستوطنات المبنية على أرض محتلة. وبدلاً من أن يهاجم القادة الشركات التي تتخذ قرارات مبدئية يمكنهم أن يلعبوا دوراً أفضل في مناهضة معاداة السامية من خلال المساعدة في التوصل إلى إنهاء الاحتلال المؤذي وغير العادل بطريقة سلمية.
مرة جديدة يغيب العرب الأميركيون في معظمهم عن فرصة مهمة لتأطير الطاقات ورفع الاهتمامات من مستنقعات الوطن الأم.
قبلها فوّتنا فرصة طرد الصحفية اليهودية الأميركية أميلي وايلدر من اكبر وكالة أخبار أميركية «أسوشييتد برس» بسبب تغريدات لها مؤيدة للقضية الفلسطينية… ولا زلنا لسنوات نضيع فرصة إبقاء اسم الشهيدة اليهودية الأميركية الطالبة رايتشل كوري التي سحقتها جنازير دبابات الاحتلال وهي تدافع بجسدها عن قطاع غزة.
كم فرصة ستضيع قبل أن نكتشف أن ارتباطنا المعتل بأوضاع الوطن الأم لن يزيدنا إلا تراجعاً وتشتتاً وضعفاً؟
Leave a Reply