تونس – لم يتجاوب الشارع التونسي مع محاولات الرئيس زين العابدين بن علي احتواء الغضب الشعبي في انتفاضته التي تهز البلاد منذ اربعة اسابيع عبر استبدال وزير الداخلية والإعلان عن إطلاق سراح جميع معتقلي الاحتجاجات، لا سيما أن هذه المحاولات ترافقت مع تكثيف الحملة الأمنية الضارية على المحتجين وارتفاع أعداد القتلى والجرحى والمعتقلين، ما أدى إلى تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية والمواجهات مع قوى الأمن، فدخلت قلب العاصمة تونس ما استدعى فرض حظر للتجول ليلاً، وسجلت تظاهرة ضخمة في صفاقس، كما عرفت مدن عديدة مثل بنزرت ونابل وتالة ودوز، في أنحاء البلاد، مشاهد انتفاضة عارمة.
وفيما أكدت مصادر تونسية أن بن علي أقال رئيس هيئة أركان الجيش رشيد عمار لرفضه إطلاق النار على المواطنين، ذكرت مصادر ناشطة أن صهر بن علي وبناته سافروا إلى كندا.
وأعلن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي مساء الخميس وقف إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وعن تخفيض أسعار المواد الاساسية، وعدم الترشح إلى الإنتخابات الرئاسية للعام 2014.
وتعهد بن علي في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي، هي الثالثة له منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية منذ نحو ثلاثة أسابيع، بدعم حرية الإعلام والتعبير، وبالمزيد من توسيع المشاركة السياسية أمام جميع مكونات المجتمع المدني. ودعا في المقابل إلى تكاتف جهود الجميع لتهدئة الأوضاع بما فيه مصلحة البلاد.
وقال بن علي أنه أمر برفع كل التحديدات التي يمكن ان تعيق الاعلام في البلاد بما فيها الاعلام الالكتروني.
إقالة وزير الداخلية
وأعلن رئيس الوزراء التونسي محمد غنوشي إقالة وزير الداخلية رفيق بلحاج قاسم، وعين مكانه أحمد فريعا، والافراج عن جميع الموقوفين. وأعلن ايضا في مؤتمر صحافي تشكيل لجنة تحقيق حول الفساد الذي تندد به المعارضة ومنظمات غير حكومية. وقال رئيس الوزراء “قررنا تشكيل لجنة للتحقيق بشأن مسألة الفساد”.
لكن هذه الإعلانات الرسمية لم تلق أي صدى عند التونسيين الذين واصلوا احتجاجهم، فسقط خلال الأسبوع الماضي عشرات القتلى والجرحى في تونس العاصمة ومدن دوز، تالة، نابل، توزر، ادقاش، حمامات، القصرين، الرقاب وغيرها. أما في صفاقس حيث خرجت تظاهرة قدر تعداد المشاركين فيها بـ20 ألفا على أقل تقدير، فقتل صبيّ عمره 14 عاما برصاص قوى الأمن التونسية. وتنفذ هذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 270 الف نسمة اضرابا عاما بدعوة من الفرع الجهوي للاتحاد التونسي للشغل.
وأوضحت مصادر في الاتحاد ان اضرابات متسلسلة قد تقررت في بضع مدن منها القصرين وقابس وجندوبة، اما الاضراب في العاصمة فمقرر الجمعة (مع صدور العدد).
وكان “الاتحاد التونسي للشغل” اعلن دعمه المطالب “المشروعة” للمواطنين، وطالب بالإفراج عن المعتقلين وبإصلاحات “للارتقاء بالديموقراطية وتعزيز الحريات”. ودعا الاتحاد في بيان إلى تحديد “وجوه سوء الادارة” و”الممارسات التي تتناقض تناقضا فاضحا مع قيم العدالة والحرية والمساواة”.
وجرت للمرة الاولى صدامات عنيفة بين متظاهرين وقوات الامن في وسط العاصمة التونسية، ما استدعى من السلطة فرض حظر التجول ليلاً في منطقة تونس الكبرى، أي العاصمة وضواحيها عقب المواجهات التي شهدتها بعض أحياء العاصمة، حيث انتشر الجيش ايضا للمرة الاولى في العاصمة وضاحيتها الشعبية.
وقد حاول مئات من الشبان الذين كانوا يرددون هتافات ضد النظام في باب البحر (جادة فرنسا) التقدم في اتجاه جادة الحبيب بورقيبة، لكن قوى الامن قطعت عليهم الطريق بإلقاء قنابل مسيلة للدموع. وظهر جنود مسلحون وشاحنات وسيارات جيب ومصفحات في العاصمة التونسية. وفضلا عن تعزيزات كبيرة من قوات الشرطة ووحدات التدخل الخاصة، شوهدت تعزيزات عسكرية ايضا حول مقر الاذاعة والتلفزيون.
لكن مدونات إلكترونية ومجموعات تونسية ناشطة عديدة، أكدت أن المواجهات مع الشرطة تتواصل داخل العاصمة رغم حظر التجول.
من جهة اخرى، اعتقلت السلطات رئيس حزب العمال الشيوعي التونسي (محظور) حمة همامي داخل منزله قرب تونس العاصمة، على ما افادت زوجته راضية نصراوي، وهو اول زعيم سياسي يتم اعتقاله منذ بدء التحركات الاحتجاجية. وخلال الايام الاخيرة، اجرى همامي (59 عاما) مداخلات مع وسائل اعلام أجنبية للتنديد بنظام الرئيس زين العابدين. فقد اعتبر همامي في حديث لأسبوعية “ليفت” الايطالية ان التحركات الاحتجاجية “اقوى من النظام”. وقال في هذه المقابلة التي اجريت معه قبل توقيفه “رغم سقوط قتلى لا يزال الشباب في الشارع. الحركة اقوى من النظام وقد تؤدي الى سقوطه”
يشار إلى أن شرارة الاحتجاجات انطلقت يوم 18 كانون الأول الماضي من مدينة سيدي بوزيد (265 كلم جنوب تونس العاصمة) بعد إقدام بائع متجول على الانتحار بإحراق نفسه احتجاجا على تعرضه للصفع والبصق على الوجه من قبل شرطية تشاجر معها بعدما منعته من بيع الخضراوات والفواكه دون ترخيص من البلدية، واحتجاجا على رفض سلطات الولاية قبول تقديمه شكوى ضد الشرطية.
الجيش وبن علي
وأكدت مصادر تونسية متطابقة أن بن علي أقال رئيس هيئة اركان الجيش الجنرال رشيد عمار بعد أن خيره بين إطلاق الرصاص على المتظاهرين أو الإقالة فاختار الخيار الثاني، ولم يتسن التأكد من الخبر من مصدر رسمي. وبحسب المصدر فإن رشيد عمار رفض إصدار الأوامر للجيش التونسي باستعمال القوة ضد المتظاهرين، ما جعل الرئيس التونسي يتخذ قراراً عاجلاً بإبعاده، وتعيين الجنرال أحمد شبير مدير الاستخبارات العسكرية محله.
وفي مدينة الرقاب في محافظة سيدي بوزيد التونسية، أفاد شهود عيان بأن جنودا من وحدات الجيش صوبوا رشاشاتهم نحو العشرات من رجال الشرطة، حينما ركضت مجموعة من المواطنين نحو شاحنات للجيش للاحتماء بها هربا من مطاردات فرق مكافحة الشغب.
مواقف متصاعدة
دوليا، دعت المفوضة العليا لحقوق الانسان في الامم المتحدة نافي بيلاي السلطات التونسية الى البدء بتحقيق “مستقل وذي مصداقية” في اعمال العنف الدامية التي تشهدها البلاد بعد “الاستخدام المفرط” للعنف من جانب قوات الامن. وقالت بيلاي في بيان ان “معلومات تشير الى ان غالبية التظاهرات كانت سلمية وأن قوات الامن ردت باستخدام القوة المفرطة بما يتعارض مع المعايير الدولية”. وأضافت “من واجب الحكومة فتح تحقيق شفاف وذي مصداقية ومستقل حول اعمال العنف وجرائم القتل”.
وأكدت المتحدثة باسم وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون، مايا كوسيانسيتش مخاوف الاتحاد تجاه الاضطرابات وأضافت “هذا العنف غير مقبول. يجب التعرف على الجناة وتقديمهم للمحاكمة. ولا يمكننا ان نقبل استخدام الشرطة غير المتناسب للقوة ضد متظاهرين مسالمين. على السلطات التونسية ان تبذل ما بوسعها لتحقيق الهدوء والتعامل مع الموضوعات الاجتماعية ذات الأولوية”.
ونصحت الولايات المتحدة الخميس مواطنيها بتأجيل أي سفر غير ضروري إلى تونس بسبب “تصاعد الاضطرابات السياسية والاجتماعية” في البلاد.
تنازلات بعد فشل البطش
أعلن الرئيس التونسي أنه لن يسعى لفترة رئاسية أخرى، قائلا إنه فهم مطالب التونسيين. وأكد بن علي في خطاب بثته التلفزة التونسية أنه لن يغير الدستور للسماح له بخوض انتخابات الرئاسة مجددا عندما تنتهي فترته الحالية عام 2014، قائلا إنه “لا رئاسة مدى الحياة”.
كما حث جميعَ التونسيين على دعم جهود التهدئة وقال “لم أقبل يوما أن تسيل قطرة من دماء التونسيين”، مضيفا أنه أعطى تعليماته لوقف اللجوء إلى استعمال الرصاص الحي. وأشار بن علي إلى أنه أعطى تعليمات حتى يتم التفريق بين العصابات ومجموعات المنحرفين والناس العاديين. ووعد بن علي بأنه سيطلب من لجنة تحقيق مستقلة التحقيق في مسؤولية كل الأطراف بدون استثناء، قائلا إنه “تمت مغالطتي من بعض المسؤولين وسيتم محاسبتهم”. وذكر أنه قرر توسيع المشاركة السياسية أمام جميع مكونات المجتمع المدني وإعطاء الحرية الكاملة للإعلام بكل وسائله وعدم فرض الرقابة على الإنترنت ودعم الديمقراطية، مشيرا إلى أنه سيتم أيضا خفض أسعار السكر والحليب والخبز.
Leave a Reply