محمد العزير
عندما قرر أدولف هتلر، المنتشي باحتلال جارته اللدود فرنسا وما تبقى من أوروبا القارية، الانقلاب على حليفه المستجد جوزيف ستالين واجتياح الإتحاد السوفياتي لإنجاز انتصاره العقيدي على الشيوعية بعد انتصاره الإقليمي الباهر على أقرانه، تعمّد أن يطلق على أكبر حملة عسكرية في التاريخ (شارك فيها 4.5 مليون جندي على جبهة طولها 2,900 كيلومتر (1800 ميل) اسماً تاريخياً، يضع الأمور في «نصابها» الكيدي، «بارباروسا» وهو اسم الإمبراطور الألماني فريدريتش الذي تمكن في القرن الثاني عشر من توحيد ألمانيا والمشاركة في الحملات الصليبية وإخضاع إيطاليا، والأهم، إزالة الإمارات والدوقيات السلافية إلى الشرق منه واسترقاق أهلها، وكان الملهم الأكبر لأوتو فون بسمارك الذي أعاد توحيد المانيا في القرن التاسع عشر.
من فرط غطرسة هتلر واغتراره بنفسه، أرسل جيشه في 22 حزيران (يونيو) 1941، لاجتياز مسافة متوسطها ألفي كيلومتر (حوالي 1,250 ميلاً) دون تزويدهم بثياب شتوية، أو معدات قادرة على العمل في الجو الجليدي، ولا حتى ما يكفي من الوقود لآلياتهم أو تدفئتهم. ظن هتلر أنه بمجرد وصول جيشه «الفيرماخت» وتشكيلات الـ«أس. أس» إلى دول البلقان غرباً بعد اجتياز بولندا، وإلى ستالينغراد على نهر الفولغا بعد اجتياز أوكرانيا، سيلقي السوفيات سلاحهم ويزحفون طلباً للرحمة. لم يحصل ذلك، والباقي سجله التاريخ الذي انتهى بانتحار «الفوهرر» في 30 أبريل 1945.
ما أشبه الأمس باليوم، ونحن في منتصف الشهر الثاني من عدوان فلاديمير بوتين غير المبرر على أوكرانيا. من فرط صلافة بوتين، أطلق على عملية احتلال أكبر دولة في أوروبا القارية اسم «عملية عسكرية خاصة». تذرّع بأنه يريد تطهير جمهورية، يرأسها سياسي يهودي، من النازية، وأرسل مئات الآلاف من الجنود الروس في طوابير تشبه بشيء من التضخيم، الدخول السوري إلى لبنان عام 1976، (بضوء من هنري كيسينجر ورئيس حكومة إسرائيل إسحاق رابين). لكن عوامل التاريخ والجغرافيا ومعطيات التوازن الدولي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ليست كما كانت أيام الحرب الباردة التي عرف حافظ الأسد كيف يستثمرها، والأهم أن الشعب الأوكراني لم يكن في حالة حرب أهلية كما كان يحلو للكرملين أن يصورها منذ العام 2014، بعد تشجعيه انفصال إقليمين في منطقة الدونباس. فقد تبيّن أن لأوكرانيا من يبكي عليها (باستثناء الكيان الإسرائيلي، الذي ولمحاسن الصدف يتفق في ذلك مع محور الممانعة). بلغ طول الطابور المؤلل الذي قصد عاصمة أوكرانيا حوالي 50 كيلومتراً في تشكيل يشبه الاستعداد لعرض عسكري أكثر مما هو مستعد للقتال.
أيضاً وأيضاً، أرسل بوتين عسكره بلا ثياب شتاء وبلا أدوات تدفئة، وحتى بلا شاحنات وقود، على اعتبار أن على جيشه فقط أن يقطع المسافة الفاصلة بين بيلاروسيا والعاصمة الأوكرانية كييف، لينتشر بعدها على هواه في المدن والبلدات والقرى ويستولي على ما يحتاج من مواقع الجيش الأوكراني ومحطات الوقود ومستودعات الأغذية، كما فعلت حركة طالبان بقيادة المخابرات الباكستانية الخاصة بعد الانسحاب الأميركي المرتبك من أفغانستان، حيث انهار في يومين، الجيش الذي موّلته ودربّته أميركا وأنفقت عليه مليارات الدولارات طوال عشرين سنة. لم ينطبق حساب حقل بوتين على بيادر الأوكرانيين الذين سئموا منذ انهيار الإتحاد السوفياتي (وتخليهم الطوعي عن سلاحهم النووي) عربدة موسكو ووصايتها وهيمنتها وقرروا أن يقاتلوا للتخلص إلى الأبد من الإرث الروسي الذي بدأ من أيام القياصرة، وتعزّز أيام الشيوعية، ولم يحسم مصيره بعد ثلاثة عقود ونيف من انهيار التجربة السوفياتية.
انطلق الاجتياح الروسي على أوكرانيا من الجبهات الشمالية (بيلاروسيا) والشرقية (معقل الإنفصاليين في الدونباس) والجنوبية (حيث شبه جزيرة القرم التي سبق لبوتين أن ضمها عام 2014)، بكل هوبرة وتعسف المقتدرين. كان واضحاً من الساعات الأولى أن بوتين مصاب بما أصاب هتلر من قبله، وهو داء تصديق الدعاية التي صنعها بالأكاذيب والبروباغندا والافتعال. صدّق بوتين ومن حوله ما كان إعلامه الرسمي وإعلام الدائرين في فلكه من أنظمة قمعية، وعشرات الآلاف من هواة الطغيان المنتشرين على وسائل التواصل الاجتماعي يتداولونه لسنوات عن القدرات العجيبة لروسيا والمستمدة من القدرة العجائبية لـ«القائد الفذ» الذي نُسجت حول ولادته ونشأته حكايات تشبه معجزات الأنبياء والقديسين، ليتبعها الترويج «التقويظي» للمنتجات الحربية الروسية من اسطورة الـ«أس 400»، إلى فرادة الـ«تي 90» إلى تفوق الـ«ميغ 29» والـ«السوخوي 27، 30، 35، و57». أحابيل وترّهات تشبه حكايات صواريخ «القاهر والناصر والظافر» المصرية التي كشفت هزيمة حزيران أنها كانت تصمم وتنتج وتجرّب في إذاعة «صوت العرب من القاهرة»، وحكايات الكيمياوي المزدوج الذي هدد به صدام حسين لينتهي مختبئاً في حفرة تحت الأرض في أوضاع أسوأ من الإنسان الأول.
بدأ الاجتياح الذي كانت أميركا سبّاقة إلى كشفه، بينما كان العالم في معظمه، وخصوصاً سعيد الذكر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (الذي لا يكره جلاداً ولا يتضامن مع ضحية)، يعتقد أن واشنطن تبالغ، وأن حملة عسكرية من هذا النوع لم تعد واردة في القرن الحادي والعشرين.
وككل مرة يراهن فيها المتفائلون على إنسانية العالم لا يتأخر الإحباط وخيبة الأمل. كان بوتين الذي قرر العودة إلى مفاهيم القرن التاسع عشر في العلاقات الدولية ليتشدق بكل صفاقة بحق الدول الكبرى في «مجال حيوي» لمصالحها على حساب جيرانها الأصغر، يتغاوى حتى اللحظات الأخيرة قبل الغزو، بأنه منفتح على الحلول ولقاء الرئيس الأميركي جو بايدن في اجتماع كان من المفترض عقده بعد ثلاثة أيام من انطلاق العدوان. ربما كان بوتين يذر الرماد في العيون أو ربما كان يعتقد أنه سينجز أهدافه في غضون يومين، وفي الثالث، سيكون على أميركا والغرب الجلوس إلى طاولة المفاوضات للإصغاء إلى شروطه.
بدلاً من ذلك، صنع الشعب الأوكراني تاريخاً مختلفاً أربك حسابات بوتين وأعوانه، وأطاح في أسابيع قليلة بالهالة التي صنعها بوتين بمباركة كهنوت السلطان ونزوات الفاشية البيضاء المتجددة من أوروبا إلى أميركا، فاضطر «القائد الباهر» إلى تغيير مسار الكذب الرسمي.
صارت أهداف الحملة الآن مقتصرة على جنوب أوكرانيا وشرقها، لكن ذلك لم يمنع من استدعاء الاحتياط بعدما صارت معظم القوات الروسية الراجلة والجوية والمؤللة والبحرية والصاروخية مفروزة إلى أوكرانيا وتتلقى الصفعات المدوية يومياً بطريقة مذلّة.
لم يعد أمام بوتين الآن، وهو يتابع تلقي قواته لنكسات متتالية، (تقول بعض التقارير الغربية إن معاونيه لا ينقلون إليه الأخبار السيئة، وبالتالي معلوماته عن سير المعارك الميدانية غير وافية. لكن ذلك غير ممكن لشخص جاء من عتمة الغرف السوداء للمخابرات إلى سدة المسؤولية. ولأنه يعرف حقيقة، يتغير مسار الكذب كل يوم)، إلّا المزيد من الكذب بحثاً عن طوق نجاة لن يرميه إليه أحد. حتى الصين التي كان يتباهى بعلاقته الاستراتيجية معها، أدارت له ظهرها، فالمصالح الاقتصادية والتجارية والاستراتيجية لبكين أهم من النزوات القيصرية لزعيم صنعته الصدفة، ولعل في تصاريف اللغة بلاغة أعمق، إذ ليس لبوتين من حليف متحمس إلا «بلا» روسيا. فمن يعقل ومن يتعظ ومن يأخذ العبر؟
Leave a Reply