خليل إسماعيل رمَّال
الكتابة عن لبنان لم تعد تجدي نفعاً، فلا حياة لمن تنادي بعد أنْ وصل الإنهيار فـي الدولة المسخ والنظام الموبوء حداً لم يعد فـيه مجال للقياس والمقارنة.
البلد السايب كسر كل الأعراف والحدود ووحوش المال فـيه دخلوا التاريخ من حيث صمودهم وبقائهم فـي السلطة رغم فضائح صفقات والنهب والسرقات لأنهم يحكمون شعباً مدجَّناً خانعاً لا يُحاسِب. فمنذ انتهاء الإنتداب الفرنسي حتى اليوم لا تزال المعضلات والمشاكل هي ذاتها وكذلك الحلول التي تستعصي على البلد المشلول.
سبب هذه المقدمة هي الذكرى الحادية والاربعين للحرب الأهلية التي اندلعت فـي ١٣ نيسان ١٩٧٥، حيث مرَّتْ هذا الأسبوع بحياء ولم يشعر بها إلا أهالي ١٧ ألف مخطوف ومفقود لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم رغم مرور ٢٦ عاماً على انتهائها. كل شيء فـي مسخ الوطن أسوأ من غيره فـي دول العالم، حتى حربه العبثية المجنونة التي كان فـيها المتقاتلون مجرد حجارة دمى لخراب وطنهم. الأرقام وحدها مخيفة حيث نجم عن هذه الحرب اللعينة ٢٠٠ ألف ضحية أي نحو ٢،٧ بالمئة من سكان لبنان ، و١٩٧ ألف شخص بين جريح ومعاق أو ٤ بالمئة من المقيمين، وهاجر من لبنان نحو ثلث مواطنيه، كما حدثت ١٩ ألف عملية خطف وانتهت باتفاق سياسي وقانون عفو عن كل هذه الجرائم، أي عفا الله عما مضى ولا غالب ولا مغلوب على الطريق اللبنانية، ولكن من دون إقفال جرح عوائل الضحايا ومن دون الرد على الأسئلة الكبيرة حول لماذا نشبت هذه الحرب ومن السبب بوقوعها وكيف نقيِّمها ونراجعها بشكل يجعلها لا تتكرر من جديد فـي بلد الحروب الأهلية، بل كيف نضمنِّها فـي المناهج المدرسية بدل تجاهلها وماذا نكتب عنها للجيل الجديد وكيف نعالج آثارها النفسية والاقتصادية على النَّاس الذين اكتووا بنارها ولم تَدَع بيتاً من البيوت إلا وتركت فـيه جروحاً لا تندمل؟! فـي دول الغرب، وخصوصاً أميركا، تقع حادثة أمنية فـي «هاي سكول» فـيهرع فريق طبي ونفسي متخصص ومرشدون إجتماعيون وعلماء نفس لمعالجة ذيول الواقعة على التلاميذ حتى لا تترك آثاراً سلبية على شخصياتهم، لكن مسخ النظام اللبناني لم يفعل شيئاً البتة لعائلات مجازر السبت الأسود والقتل على الهوية التي ارتكبتها وبدأتها قوات بشير الجميِّل، عدا عن مجازر حي الغوارنة والمسلخ والكرنتينا والنبعة وبرج حمود وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا وغيرها، ولم يُعالَج الأطفال الذين شهدوا مقتل أهاليهم وخطفهم أمام عيونهم من قبل المليشيات الفاشية المجرمة التي سبقت الدواعش بفظاعتها ووحشيتها بسنين ضوئية. ثم ماذا عن مشاعر أهالي وأبناء وأحبة ١٧ ألفاً من المفقودين والمخطوفـين خصوصاً لدى «القوات اللبنانية» وقوات وليد جنبلاط الذي اعترف ذات مرة بقتل جميع الأسرى؟
لم يقم النظام المأفون بإنشاء وزارة لضحايا الحرب الأهلية لتدبر أمورهم وشؤونهم ووضع بنك الحمض النووي (دي أنْ أي) فـي حال العثور على هياكل عظمية فـي مقابر جماعية لم تُكتَشَف بعد، وتَرك الأهالي المثكولين لوحدهم فبقيت مطالباتهم معلَّقَة وبالهم غير مستقر لمعرفة ما حدث لفلذات أكبادهم أهم أحياء أم أموات، لكن دولة كهذه لا تهتم بالأحياء فما بالك بالمفقودين والأموات وهي نفسها مومياء وجثة غير مقبورة؟!
وبدل تغيير المناهج المدرسية وتطويرها لتضمين أحداث الحرب الواقعية، نرى أنَّ «المركز التربوي للبحوث والإنماء» يبحث امكانية إسقاط صفة العدو عن إسرائيل. ليس هناك «أرْجَل» من لبنان بخلق أسماء فضفاضة لإدارات حكومية ومؤسسات ومراكز لا تساوي قرشاً واحداً مثل المركز التربوي أو جمعية حماية المستهلك أو المجلس الدستوري أو هيئة التفتيش المركزي، وآخر الأثافـي هيئة «أوجيرو» المملوكة والمطوبة للإمبراطور عبد المنعم!
واليوم بدأ موسم الانتخابات البلدية فـي لبنان وكأن البلد طبيعي فلا أزمات بيئية وصحية ومعيشية ومن دون طرح السؤال الكبير من قبل الشعب: كيف تجري هذه الانتخابات فـي هذا الظرف بالذات بينما الانتخابات النيابية كانت ممنوعة فـي ظرف كان أفضل بكثير من الآن وفـي حين أنَّ انتخابات البلديات أعقد وأصعب وتدخل فـي حسابات القرى والعائلات وتتطلب جهوداً أكبر؟! لكن الأهضم من كل ذلك أنْ الانتخابات النيابية تجري فـي سوريا وسط حربٍ ضروس، وتستحيل فـي لبنان ثم ترفضها أنظمة متخلفة لم تعرف وجه الإقتراع الشعبي طوال تاريخها الأسود، ثم بعد ذلك تحاضر فـي عفة الديمقراطية والحرية!
لا شيء تغير فـي وطن الصفة المشبَّهة منذ ١٩٧٥ بل ازدادت الأمور رداءةً وسموماً حيث ١٠ بالمئة من الشعب اللبناني مصاب اليوم بالسرطان بسبب تفاقم الحالة الصحية والبيئية وهذا أشد خطراً من الحرب العسكرية، وحيث أصبح لكل مذهب جهازه الأمني العسكري مثل أمن الدولة، فنظام ما بعد الحرب لم يفتح صفحة جديدة لأن حرب لبنان الأهلية لم تُطوَ منذ أنْ عبرت على متن بوسطة عين الرمانة ومالم تنطفـيء حرارة القلوب المليانة فستبقى البوسطة ذاتها تنقل هذا البلد الكئيب إلى ضفة حروب أهلية جديدة!
Leave a Reply