«أن تصل متأخراً خير من ان لا تصل ابداً»ربما كانت هذه الحكمة في اساس قرار الرئيس الاميركي القيام بجولته على اسرائيل وبعض دول المنطقة العربية المصنفة في خانة الاعتدال.والرئيس بوش الذي يغادر البيت الابيض بعد سنة واحدة يدرك انه دخل في ارذل عمره الرئاسي ولكنه يتسلح «برؤية» لم يسبقه إليها اي من الرؤساء الاميركيين السابقين وهي رؤية دولة فلسطينية ديموقراطية تتعايش مع دولة اسرائيل الديموقراطية «اليهودية» وتفصل بينهما حدود الرابع من حزيران 1967 مع تعديلات يجاري بها الحليف الاسرائيلي فيما خص بعض الكتل الاستيطانية «المنظمة»، باعتبار ان الحركة الاستيطانية الصهيونية لها مظهر «عشوائي» ويجب العمل على إزالتها لتسهيل الوصول الى حل نهائي!.
ثمة، مع ذلك، عوائق ضخمة في مسار الرحلة الشرق اوسطية للرئيس الذي ابتعد طيلة فترة ولايتيه الرئاسيتين عن «الحضور الشخصي» الى ارض الصراع مكتفياً بـ«ارشادات إلهية» كانت توجه تعاطيه مع واحدة من اعقد واخطر الازمات التي عرفها العالم في تاريخه الحديث منذ الحرب الكونية الثانية.أولى هذه العوائق تتصل بقدرة الرئيس الاميركي نفسه على الحسم والتنفيذ بما يتعلق برؤيته لحل الصراع، والقائمة على دولتين ديموقراطيتين تتعايشان سلمياً.فهذا الرئيس يتأهب للنزول عن قمة حزبه الجمهوري الذي استهلكته ثلاثة حروب متزامنة في افغانستان والعراق وعلى الارهاب لم تحقق الادارة الجمهورية في اي منها نصراً يمكن توظيفه في رصيد الحزب في معركته الانتخابية القادمة، وهو يتأهب للنزال ضد خصمه الديموقراطي الذي احكم السيطرة على الكونغرس ويستعد للانقضاض على البيت الابيض لاخراج الجمهوريين منه بعد اقل من سنة وفي ظل اوضاع اقتصادية متهالكة تلامس عتبة الركود التام.العائق الثاني ان الشريكين المفترضين لتحقيق رؤية بوش هما من الضعف السياسي ما يجعلهما اسيرين لمعادلات داخلية من الصعب ان لم يكن من المستحيل الخروج منها في المدى الزمني الذي تدخل فيه الرئاسة الاميركية مرحلة الجمود والتي يصبح الرئيس خلالها «بطة عرجاء».فرئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت لم يشف بعد من النزيف السياسي الذي تعرض إليه مع حزبه «كاديما» جراء اخفاقه المدوي في الحرب العدوانية على لبنان صيف العام 2006 وهو اخفاق مشترك مع الادارة الجمهورية التي استثمرت في تلك الحرب ولكنها لم تجن اية عوائد ملموسة منها. واولمرت الذي نجا حتى الآن من الزلزال السياسي المتمثل في تلك الحرب ومن هزاته الارتدادية المتلاحقة لا يزال مهدداً بالسقوط مع التقرير النهائي للجنة فينوغراد المنتظر نشره آخر الشهر الجاري، والذي قد يطلق رصاصة الرحمة على الرأس السياسي المترنح لاولمرت وحزبه، يشي بذلك تربص وزير دفاعه ايهود باراك بفرصة اسقاطه من داخل حزبه عبر وزيرة خارجيته تسيبي ليفني المتحفزة لالتقاط النتائج النهائية للتقرير ورميها على مكتب اولمرت طالبة اليه المغادرة وإلا انفرط عقد التحالف الركيك للحزب الحاكم مع العمل وبعض الاحزاب الدينية الصغيرة. ولقد ظلت قوة اولمرت السياسية تستمد طاقتها من ضعفه الذي عكس تعاطفاً معه على المستوى السياسي مرده الخشية من مزيد من التوهين لـ«المشاعر القومية» المنتكسة بفعل الاخفاق الذي اظهره صمام امان «الديموقراطية الاسرائيلية» وعصبها المتمثل بـ«الجيش الذي لا يُقهر».وعلى الجانب الفلسطيني من الشراكة المفترضة لتنفيذ رؤية بوش، يجلس الرئيس الفلسطيني محمود عباس على كرسي برجلين بعد سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة وفرض امر واقع فلسطيني يستحيل علاجه خارج عودة غزة وممثليها الاسلاميين الى حضن السلطة كشريك اساسي لا تستقيم اية محاولة من قبل سلطة عباس لتجاوزه، وإلا كان البديل حرب «اهلية فلسطينية» ظل اندلاعها مؤجلاً حتى هذه اللحظة وان تكن ارهاصاتها قد لاحت في اكثر من جولة عنف دموي بين الشقيقتين اللدودتين «حماس» و«فتح» انطلاقاً من معركة الاستيلاء على غزة وما تلاها من تداعيات فرضت نفسها على المشهد الفلسطيني، ولم يعد ممكناً العودة به الى ما قبل سقوط غزة بأيدي الحركة الاسلامية عسكرياً بعدما كسبتها بالانتخاب الديموقراطي الذي لطالما شجعت عليه الادارة الاميركية عبر مشروعها للمنطقة قبل ان تتراجع عنه تدريجياً مع تعثر مشروعها للشرق الاوسط الجديد انطلاقاً من العراق وافغانستان.اما الطابع الامني للزيارة الرئاسية الاميركية الى القدس المحتلة ورام الله فقد تجاوز حركة الاجراءات الامنية المكثفة التي رافعت الزيارة وتحول جيش السلطة الفلسطينية برمته تقريباً الى فريق حماية للرئيس بوش وسهر اسرائيل بأجهزتها المخابراتية والامنية على امن الزيارة من الجهة الاسرائيلية، الى طغيان الامني على السياسي في مقاربة الرئيس بوش لآليات قيام دولة ديموقراطية فلسطينية، وهي مقاربة تبدأ من مطالبة السلطة الفلسطينية بالقضاء على «الارهاب» الفلسطيني في غزة ولا تنتهي في التحذير من الخطر الايراني على استقرار المنطقة ومشروع السلام الاميركي.ولعل «محنة» الرؤية البوشية للدولة الفلسطينية تكمن في مجانبة العناصر السياسية والتاريخية للصراع ومحاولة حصر الاسباب التي تعترضها بالعنصر الامني الذي عملت الادارة الاميركية الحالية مثل سابقاتها على تغليبه رغم الشواهد التي لا تحصى من سيرة الصراع العربي – الاسرائيلي بأن الحروب المتعاقبة الذي شهدها لم تفلح في احداث تغيير جوهري في مجريات هذا الصراع المزمن في تلك المنطقة الحساسة من العالم، بالنسبة للامن القومي الاميركي الذي اثبتت احداث الحادي عشر من ايلول 2001 ان تلك المقاربة الامنية له جلبت الكوارث الى الداخل الاميركي عبر الارهاب العابر للمحيط للمرة الاولى في التاريخ الاميركي الحديث.اما في الشق العربي الآخر من الزيارة فليس من المتوقع ان يسمع الرئيس بوش ما يسره بالنسبة لحشد العالم العربي ضد اخطار التمدد الايراني الا بمقدار ما يكون مقنعاً بقدرته على تطويع الرفض الاسرائيلي المتمادي لارجاع الحقوق الى اصحابها في فلسطين والجولان ولن يشفع له على الارجح نداؤه الى الاسرائيليين ازالة «الاستيطان العشوائي»، وهذا ما لا قدرة للرئيس بوش على القيام به في آواخر عمره الرئاسي، ودخول بلاده في مرحلة المخاض الانتخابي الذي ينافس فيه شعار حماية اسرئيل كل الشعارات الاخرى، بل يتفوق عليها، لدى مرشحي الحزبين الجمهوري والديموقراطي.المشروع الاميركي المتعثر في المنطقة لم يرفع راية الاستسلام امام العوائق العديدة التي اعترضته خلال السنوات الاربع الماضية، والارجح ان الزيارة الرئاسية هدفت الى افهام المعنيين من موسكو الى بكين وصولاً الى طهران ودمشق ان المنطقة ستبقى منطقة نفوذ اميركية بقوة التهديد بشن الحروب تارة وتحريك المبادرات السياسية تارة اخرى. وليس من قبيل الصدف ان يواكب الزيارة الرئاسية حملة عسكرية ضخمة اميركية شمالي بغداد لحماية «الصحوات العراقية» بمقلبيها السني والشيعي، وطلب قيادة الاركان الاميركية تعزيز الوجود العسكري في افغانستان بثلاثة آلاف جندي اضافي لمكافحة عودة نفوذ طالبان والقاعدة الى مناطق الحدود الافغانية الباكستانية وترنح النظام العسكري في باكستان تحت وطأة التهديد بالسقوط مع سلاحه النووي في ايدي حلفاء ارهابيي 11 ايلول!.زيارة بوش تاريخية حقاً، ليس لانها ستؤسس لحقبة من الاستقرار والامن في المنطقة، بل لانها قد تؤرخ لاعادة تشكيلها على الصعيد الجيوسياسي وبأثمان تشيب لهولها الولدان!.زيارة تختلط فيها «الرؤية» السياسية بـ«الرؤيا» الايديولوجية لرئيس ظل «يستمع» الى الله حتى السنة السابعة من رئاسته في «صومعة» مكتبه البيضاوي، وقرر في السنة الثامنة الخروج لطرد «الشياطين» من الهيكل!.الله يستر!
Leave a Reply