تحل عما قليل، الذكرى السنوية الأولى لقيام التونسي محمد بوعزيزي بإحراق نفسه احتجاجا على إهانته من قبل شرطية، هي في آخر الأمر شقيقته في الوطنية. الذكرى.. التي ستصبح بكل تأكيد بداية لتقويم جديد في تاريخ الشعوب العربية في أوطانهم التي تمتد “من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر”. مع أن هذه الجملة الأخيرة.. تبدو من مخلفات حقبة سوداء ومريرة اتسمت بالتزوير والتفنيص والتبجح والكذب على الذقون.
وفي الذكرى السنوية الأولى، يحلولي أن أفكر بعود الثقاب الذي أشعله بوعزيزي كأجمل عود ثقاب في التاريخ، وبقطرات النفط التي سكبها على جسده.. بأغلى قطرات نفطية في العالم، وأفكر بذات الوقت بتلك الكميات الهائلة من الثروات الطبيعية التي يزخر بها وطننا الكبير، والتي حفظناها عن ظهر قلب في كتب التاريخ، ثم فشلنا في الإجابة عن أسئلة الامتحانات.. هكذا من باب النكاية.
وتحز في نفسي عودتنا إلى التاريخ، وليس إلى كتبه، من باب اليأس والقنوط.. وليس من باب الأمل والتطلع. ما الذي يعني أن تقهر شرطية شابا في مقتبل العمر لا يجد ما يسد رمقه، وماذا يعني أن يختار المصريون ضبط ساعة ثورتهم في يوم 25 يناير، وهو يوم الشرطة في مصر. وهكذا تمرد التونسيون والمصريون والسوريون والليبيون واليمنيون والبحرينيون على حماتهم. والسبب بسيط.. لأن حاميها حراميها!
لا يهم! صار لدينا ثورات من نوع آخر، تختلف عن ثورات الرؤساء العرب والأحزاب الحاكمة. ثورات شعبية.. كما لدى الروس والصينيين والفرنسيين والإيرانيين. ثورات ليست ضد الحاكمين شعوبهم بالبسطار والهراوة.. وشعارات “لا صوت يعلو فوق صوت البندقية”!
لقد صار صوتنا أعلى، ليس بسبب قوة حناجرنا، وليس بسبب الميكروفونات، بل بسبب صمت البنادق وصدئها وتثاؤبها في المخازن العسكرية، ونظافتها وحداثتها ودقتها و”صوتها الناعم” في أيدي رجال البوليس والمخابرات. صار صوتنا أعلى.. لأن الأوطان كانت صامتة صمت القبور، يملؤها ضجيج بلا معنى ولا رائحة. صار الصوت أعلى.. لأننا لم نكن حتى في الحلم نجرؤ على الهمس: الشعب يريد إسقاط النظام..
إذن، فماذا نقول لمحمد بوعزيزي في عيد ميلادنا الأول؟ نقول له.. لا تقلق لأن الثورة ماتزال بخير وأنها مستمرة رغم كل المؤامرات التي تحاول جرها إلى الأزقة والطرقات الجانبية. رغم كل ما يبث من تخويف وترهيب واتهامات ملغومة، ورغم كل التخوين والقتل العابر للمدنيين والأطفال والنساء.
ونقول له.. نم قرير العين، فالثورة انتصرت في تونس ومصر وليبيا وهي آيلة إلى النصر في سوريا واليمن والبحرين.. وأنها ستصل لا محالة إلى باقي “المزارع” والمشيخات والمملكات والجمهوريات غير الجمهورية. ستصل.. فالثورة زعزعت قلوب وعقول جميع الحكام وأقضت مضاجعهم في الليل والنهار. ستصل إلى ميادين التحرير في كل المدن العربية.. بما فيها تلك التي تدعي أنها عصية على الزلزال وبعيدة عن مسار الريح.. لأن العالم العربي بعد بوعزيزي ليس كالعالم العربي قبله..
والأهم أن الثورة دخلت لغتنا وقوامسينا وعاداتنا اليومية وقوانيننا الاجتماعية وصار لأصواتنا معنى ولكلامنا معنى ولوجودنا معنى.. بعد أن كنا لعقود وعقود مجرد مستمعين نجلس على المقاعد ونلهب أكفنا بالتصفيق المتكرر.. على الخطابات الفارغة والخشبية.
في الذكرى السنوية الأولى لحريق بوعزيزي وعيد ميلادنا الأول، والشتاء على الأبواب، أقول:
عزيزي بوعزيزي.. ألا سقى قبرك الغمام!
Leave a Reply