مريم شهاب
كتاب آخر انتهيت من قراءته مؤخراً، للمؤرخ اللبناني كمال الصليبي (1929–2011) يتحدث فيه عن تاريخ الكيان اللبناني بين التصور والواقع وطوائفه العديدة التي كانت حتى عام 1975 –تاريخ بدء صراعات الفوضى والعنف– تدعي بأنها بعيدة عن التزمت والتعصب في مواقفها السياسية والدينية والاجتماعية.
بالطبع، لم يكن ذلك صحيحاً، حيث دخلت البلاد في دوامة الحرب العبثية التي تجلت فيها كافة أشكال الوحشية بين الطوائف المتصارعة، وأحياناً داخل الطائفة ذاتها. وكانت الحصيلة دماراً عاماً وانحداراً نحو مزيد من التمزق والتوتر والفساد.. والطائفية.
من المعروف أن الصليبي صاحب باع طويل في حقل الكتابة حول الشؤون اللبنانية، الثقافية والسياسية والدينية، لكن براعته تتجلى بشكل أعمق في مجال التاريخ، وخير ما يدل على ذلك، إصداره الأخير الذي جاء تحت عنوان: «بيت بمنازل كثيرة»، والذي كتبه بالفرنسية، وتمت ترجمته إلى العربية فيما بعد.
يحاول الكاتب تقديم رؤية متبصرة للتشابك التاريخي بين العروبة والإسلام والمسيحية، منذ الفينيقيين وحتى عصر الانفلات هذا، بما فيه من خليط المتشددين وزعران الحروب. يكتشف نواحي الخلل في النظريات المتعارضة والمتضاربة التي تكمن وراء النزاع السياسي الراهن في لبنان، محدداً الأسباب التي توجب على اللبنانيين أن يتفقوا على تاريخهم، كقناعة علمية، لا وجدانية فقط.
في الفصل الـ11 من الكتاب، يتحدث المؤلف عن كتب التاريخ المدرسية، وكيف أن لكل طائفة كتابها التاريخي الذي يختلف تماماً عن الكتب التاريخية للطوائف الأخرى. يشير إلى حرص الموارنة واهتمامهم بكسب الدورز والضغط عليهم للاعتراف بتاريخ وطني خاص بلبنان، في مواجهة معارضة المسلمين السنة وقلة اكتراث المسلمين الشيعة.
قراءة الكتاب ممتعة جداً، إذ أنه لا يسرد رواية عادية لتاريخ لبنان، وإنما يقدم دراسة نقدية للنظريات المختلفة لهذا التاريخ.
وفي تحليله الأخير، يقدم الصليبي خلاصة تقول إن التاريخ ليس مجرد بحث عن المعرفة، إنما هو كذلك بحث عن الفهم والإدراك، أي عن الحكمة.
ولبيت الحكمة منازل كثيرة، لذلك يجب تنظيف سقوف المنازل اللبنانية بالمعاسف، كما كانت تفعل العجائز في القرى بتنظيف البيوت من غبار الزمن. وإذن.. لا بد من حملة تنظيف عامة تكتسح بيوت العناكب المنسوجة داخل الرؤوس الطائفية والمذهبية، حتى يتسنى للبنانيين الخروج من عنق الزجاجة المخيف الذي يجدون أنفسهم محشورين فيه، هذه الأيام.
باختصار، لبنان هو البيت وطوائفه الطائفية هي المنازل التي امتلأت بالغبار والعفن والصدأ..
Leave a Reply