محمد العزير
كثيرة هي الحكايات التي تروي جلجلة الشعب الفلسطيني منذ انتُكب بالحركة الصهيونية التي أُنشأت على أرضه كياناً هجيناً يعيش على البطش والتجبر والخداع والدماء، حكايات تستعيدها الذاكرة الجمعية هذه الأيام على وقع حرب الإبادة الجديدة التي تشنها دولة الاحتلال على غزة وتطال نيرانها الضفة الغربية ولبنان، هي حكايات جديرة بالتوثيق والتداول لما فيها من تفاصيل تتجلى فيها المفارقة المأساوية بين شعب مسالم متعدد الإثنيات والديانات لا ذنب له سوى صراعات دولية وضعته –رغماً عنه– تحت وصاية نتنة لدولة في طور الأفول، وبين شذاذ آفاق من أثرياء ومغامرين ومرتزقة تشربوا الفكر القومي الشوفيني الذي ساد في أوروبا في القرن التاسع عشر، وقادها إلى حربين كونيتين هائلتين، فاخترعوا حركة فاشية دينية أسموها الصهيونية وباشروا، بمساعدة أوروبا وسلالاتها، في تجميع أناس من أصقاع الأرض ليصنعوا منهم شعباً بإغراء المال وسطوة الهندسة الاجتماعية.
تجري وقائع واحدة من تلك الحكايات المعبرة في حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وتحديداً في البيت الذي يشغله الآن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. تعود ملكية البيت الواقع على شارع هابورتسيم، حسب التسمية الحالية، في منطقة القطمون إلى الدكتور توفيق بشارة كنعان، الطبيب البارع والإنساني والمثقف. ولد الدكتور المشهور عام 1882، في قرية بيت جالا المجاورة للقدس لعائلة ميسورة تنتمي للكنيسة اللوثرية الإنجيلية، وتخرج طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1905، وعاد إلى القدس ليكمل تخصصه في علم الجراثيم والأورام، وأصبح مديراً لأكثر من مركز طبي أهمها مستشفى هانسن المتخصص بمعالجة الجذام (البرص) وكان في عمله لا يميز بين مسلم ومسيحي ويهودي ولا بين عربي وأجنبي، كما كان مولعاً بعلم الاجتماع والإثنيات، وخبيراً في التراث الشعبي الفلسطيني ويهوى جمع الأيقونات والأشغال اليدوية. قادته دراسته وفراسته إلى التوجس من المشروع الصهيوني على أرض فلسطين مبكراً، فكان مدافعاً شرساً عن قضايا شعبه خطابياً وخطياً ومن أنشط الساعين في العمل الاجتماعي والنقابي من أبناء جيله.
ولأنه كذلك، ولأن الصهاينة يعرفون نفوذه ودوره استهدفوه في حرب النكبة وقصفوا بيته الجميل المطل على الجزء الشمالي من مدينة القدس التي استولت عليها القوات الإسرائيلية عام 1948، وأجبروه على النزوح. وضعت الوكالة اليهودية يدها على الفيلا ذات الطابقين، وبعد سنة سلمتها إلى عائلة يهودية قادمة من أميركا، عائلة نتنياهو! لكن لحظة… تلخص هذه الأسرة جزءاً هاماً من التاريخ الملتبس للكيان الهجين. رب العائلة الدكتور بنيامين نتنياهو (الأب) مولود في وارسو في بولندا عام 1910، باسم بن صهيون ميليكاوسكي، والده الحاخام الصهيوني المتشدد ناثان ميليكاوسكي الذي كان متفرغاً للتبشير بالصهيونية بين يهود أوروبا وأميركا الشمالية، والذي انتقل إلى فلسطين عام 1920، لمواصلة حملته تحت حماية الإنتداب البريطاني. هناك تغير اسم بن صهيون إلى بنيامين وتابع الفتى دراسته متنقلاً بين حيفا وصفد وتل أبيب، والتحق بالجامعة العبرية. فور تخرجه سافر مع العائلة إلى نيويورك ليصبح مساعداً لمجدد الحركة الصهيونية المتشدد زئيف جابوتنسكي (المولود في أوكرانيا عام 1880 باسم فلاديمير يفغينيفيتش زابوتنسكي)، ويحتل لاحقاً منصب المدير التنفيذي للمؤسسة الصهيونية الجديدة في أميركا NZOA. وعندما عاد إلى فلسطين المحتلة عام 1948، غيّر اسم العائلة إلى نتنياهو نهائياً، وسلمته الوكالة اليهودية بيت الدكتور كنعان مقابل رسم قدره 16,500 ليرة إسرائيلية (حوالي 5,500 دولار أميركي)، وعام 2012 ورث نتنياهو وشقيقه الأصغر يوناتان البيت ثم اشترى نتنياهو حصة أخيه مؤخراً بمبلغ 1.3 مليون دولار. (نشرت صحيفة هآرتس مقالاً عن الموضوع في السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2021، للكاتب ب. مايكل).
تختزل هذه الحكاية إلى حد كبير، الطبيعة غير السوية للكيان الإسرائيلي ولنخبه الفاشية، وتجسد العقلية الصهيونية في أحط صورها. لسنوات طويلة وبدعم أميركي غربي لا محدود تمكنت الصهيونية من سلب فلسطين وتشريد نصف شعبها واحتلال مساحات هائلة من دول الجوار مصر وسوريا والأردن ولبنان وما تبقى من فلسطين التاريخية، ولأنها ابنة لقيطة للإيديولجية الفاشية الأوروبية ولأن نخبها تعلمت وعملت وتدربت وتطوعت وحاربت في الجيوش الغربية كانت ماهرة في تقديم نفسها كأنموذج ديمقراطي في غابة من الاستبداد (وللغرب اليد الطولى في الأمرين)، وتصرفت وكأنها ولية الدم لضحايا المحرقة التي كانت هي كحركة صهيونية أداة تنفيذية للنازية فساعدتها على ضبط الغيتوات وعلى تسليم المطلوبين وعلى ترحيل اليهود المقتدرين الذين دفعوا للصهيونية ثمن حريتهم من أموالهم وأرزاقهم التي كانت تسدد لضباط هتلر. هذه حقائق لا لبس فيها، وكثيرون من اليهود غير الصهاينة فضحوا الأمر لكنهم تعرضوا لكبت وملاحقة وتضييق من قبل إسرائيل والحكومات الغربية.
ولعل في قصة الفيلسوفة اليهودية المشهورة الألمانية الأصل خنة أرندت Hannah Arendt مع الكيان دليل آخر على العقلية الصهيونية، ففي كتابها «ايخمان في القدس» الذي جمعت فيه مقالاتها المطولة عن محاكمة المسؤول الناري الكبير أدولف إيخمان الذي اختطفه الموساد من الأرجنتين مطلع الستينيات من القرن الماضي لمحاكمته على دوره في المحرقة، توقفت أرندت أمام واقعة ملفتة حين لاحظت أن المدعي العام الإسرائيلي كان يحاول جاهداً إظهار العلاقة «المريبة» بين مفتي فلسطين السابق الحاج أمين الحسيني وبين القيادة النازية مستغربة سعيه إلى إدانة الفلسطينيين جراء ذلك مقابل الإغفال الكامل لحقيقة استمرار الاجتماعات التنسيقية الأسبوعية على أكثر من مستوى بين مسؤولي الحركة الصهيونية وبين النازيين حتى الأسابيع الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. عندما صدر الكتاب عام 1963، استنفرت إسرائيل نخبها وشبكات الصهيونية في أميركا والغرب وأوفدت وزير خارجيتها وأعضاء من الكنيست ومن فريق الادعاء العام والقضاة والإعلاميين في مهمات طويلة الأمد للتشويش على الكتاب والطعن في مصداقية أرندت التي تحولت فجأة إلى «متعاطفة مع النازية وكارهة لنفسها».
لم يكن فساد العقيدة الصهيونية سراً، ففي العام 1975، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379 الذي يدين الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وبطبيعة الحال صوتت ضد القرار 35 دولة بينها أميركا ودول أوروبا الغربية ومن يدور في فلكها من دول أميركا الجنوبية وأفريقيا، وسبق ذلك بسنتين صدور القرار 3151 عن الجمعية العامة الذي يدين التحالف «غير المقدس» بين الصهيونية ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. استند القراران على أنظمة وقرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية المؤكدة على ضرورة إزالة أشكال العنصرية والتمييز والاستعمار في العالم. لكن واشنطن التي لم تجد نظاماً عنصرياً فاشياً إلا وأعجبت به، خصوصاً بعد الحرب الثانية، من فرانكو في إسبانيا إلى سلالات المستوطنين الأوروبيي الأصل في جنوب أفريقيا وزيمبابوي إلى ديكتاتوريات أميركا الجنوبية وشرق آسيا، دأبت على محاولات إلغاء القرار حتى سنحت لها الفرصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد تحرير الكويت من القوات العراقية، وتحت عنوان إزالة العراقيل من أمام مساعي السلام التي قادت إلى مؤتمر مدريد، فتقدمت أواخر 1991، بمشروع القرار 4686 إلى الجمعية العامة لإلغاء القرار 3379. لم تصوت أية دولة عربية لصالح القرار الجديد فغابت خمس دول عن الجلسة (البحرين، مصر، الكويت، المغرب وتونس) وصوتت البقية ضده.
في كلمة ألقاها في «محمية الإعلام المستقل» The Sanctuary for Independent Media في نيويورك بعنوان «الإبادة قي غزة»، قال الصحافي الأميركي المرموق الحائز على جائرة «بوليتزر» والذي عمل مديراً لمكتب «نيويورك تايمز» في الشرق الأوسط، كريس هيدجز، إن الحرب الإسرائيلية على غزة تشبه الهجوم النازي على ستالينغراد أو على وارسو حين قاومت حيث دمر 90 بالمئة من المدينة، ورأى أن الكيان المحتل قام على كم لا يحصى من الأكاذيب الصغيرة والكبيرة والعظيمة: كذبة أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن 750 ألف فلسطيني تركوا بيوتهم في النكبة بناء على أوامر قادتهم، وأن الجيوش العربية باشرت حرب 1948، وأن إسرائيل تعرضت للإبادة في حرب حزيران (يونيو) 1967 التي احتلت خلالها سيناء والجولان وما تبقى من فلسطين، وأنها تريد سلاماً عادلاً وتوافقاً على إقامة دولة فلسطينية، وأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأنها امتداد للحضارة الغربية في بحر من الهمجية وأنها تحترم القانون وحقوق الإنسان…
هذه كتلة الأكاذيب التي قدرت على فلسطين وجوارها، وهذه الأكاذيب التي كشفها طوفان الأقصى، والتي تستدعي من الشرفاء وأصحاب الضمائر أن يواصلوا فضحها لتنفيس الورم الصهيوني المخادع، كمقدمة ضرورية لعودة أحفاد الدكتور كنعان ومئات آلاف الفلسطينيين إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم السليبة.
Leave a Reply