بيني وبين الكاتب العبقري والمفكر اللامع طه حسين أكثر من معركة خاسرة، وأكثر من هزيمة ساحقة، لصالحي بالطبع! وإذا كنت أتذكره هذه الأيام، فإنني لا أفعل من قبيل التعاطف، أو احترام الخصم، أو نبل الأخلاق، فهذه من شيم البرابرة. ولست أنا جنكيز خان المغولي، ولا أباه، الذي هزم أكبر وأعتى خصومه “تيموجين” ثم قام بعد ذلك بتسمية ابنه باسم عدوه تدليلاً على الاحترام ورقي أخلاق الفرسان. تيموجين الابن.. هو الذي سيصبح فيما بعد جنكيز خان، ملك العالم. ليس لي هذه الطباع المغولية.. وأنا أتذكر طه حسين الذي خاصمته زمناً طويلاً، وهزمته مراراً..بعجرفتي.
بيني وبين طه حسين، سوء فهم!
في بدايات قراءاتي، وقع في يدي كتاب طه حسين “الأيام” الذي يروي فيه قصة حياته، ولم أتمكن في ذلك الوقت من محبة الكتاب والإعجاب به، وقررت إعادته إلى مكتبة المدرسة. لم أقرأ منه سوى صفحات قليلة، وبدا لي كتاباً جافاً وعقيماً. وزاد في المشكلة اضطراري إلى حمله يومياً خلال الطريق الطويل إلى المدرسة، بمسافة تتجاوز الأربع كيلومترات مشياً على الأقدام. وكان أمين المكتبة قليل التواجد، بعد افتتاحه محلاً جديداً للأدوات الصحية، فواظبت على حمل “الأيام” لأكثر من أسبوعين قبل إعادته. في كل مرة كنت أحاول فيها قراءة صفحات جديدة.. كنت أفشل، وكنت أندب حظي بمرارة، وانتهى بي الأمر إلى كره طه حسين إلى حد المقت.
بعد سنتين وكنت ما أزال في المرحلة الإعدادية، وقعت في حب الأدب والفن والتاريخ، وقرأت بنهم معظم الشعر العربي القديم. بدأت جاهلياً.. وانتهيت جاهلاً على الأغلب. قراءة التاريخ هي التي أخذتني على قراءة الشعر. أنعشتني البطولات والانتصارات وأيام العرب، وأعجبتني فنون القول والكلام والتقول.. إلى أن وقع في يدي كتاب “في الأدب الجاهلي” لطه حسين. صدمني الكتاب وأربكني وجرحني، فأقلعت عنه بضربة قاضية. لم ترق لي فكرة أن شعراء الجاهلية هم أشخاص لا وجود لهم وأن الشعر الجاهلي في معظمه منتحل ومزور.
ومرت الأيام.. ووقع في يدي كتاب “حديث الأربعاء” فلم أقلّب أوراقه حتى، وفي معارض الكتب.. لم ألقِ بنظرة إلى كتب طه حسين. وعندما نصحني أحد الأصدقاء بضرورة قراءة كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” سألته عن اسم الكاتب فأجاب: طه حسين، فقلت له: انسَ..
خلال دراستي الجامعية، تغيرت. تغيرت كثيراً. وعبر مناسبات متقطعة وقراءات متباعدة اكتشفت أنني ظلمت ذلك الأعمى. قرأت كثيراً عن كتابه “في الأدب الجاهلي” وأذهلتني شجاعته وبعد نظره وقوة بصيرته، رغم تراجعه عن الكتاب بسبب الضغط الذي مورس عليه. وقررت قراءة ذلك الكتاب، وبدأت رحلة بحث مضنية عنه. لم أجد الكتاب الذي كان ممنوعاً من النشر. وتذكرت مكتبة المدرسة الإعدادية، ورجعت إليها، فلم أجد المكتبة! في المراكز الثقافية لم أجده. في المعارض الثقافية لم أجده. كان الكتاب ممنوعاً منذ وقت طويل، لكن أمين مكتبنا المدرسية لم يعرف بذلك، فظل الكتاب متاحا لرواد المكتبة من الطلاب (كانوا نادرين) وهكذا وقع الكتاب في يدي ولم أدرك أهميته.
في السنة الماضية، وجدت كتاب “حديث الأربعاء” في مكتبة أحد الأصدقاء الأميركيين في شيكاغو، وقرأته دفعة واحدة. قراءة سريعة ومتلهفة تشبه مسحاً بصرياً إلى حد بعيد. فعلت ذلك كنوع من الاعتذار.
قبل شهور قليلة، تابعت على “الإنترنت” تداعيات قرار وزارة التربية المصرية بإقصاء كتاب “الأيام” عن المناهج الدراسية، بحجة قدمه وعدم مجارته لروح العصر، أما السبب الحقيقي وراء ذلك.. فقد كان الضغط الذي مارسه بعض رجال الدين الأزهريين.. الذين انتقدهم طه حسين هو الطالب الأزهري. تابعت تلك الأخبار بقلب كسير وعين دامعة..
منذ بعض الوقت، أرسل لي أحد الأصدقاء كتاب “في العصر الجاهلي” بنسخة اللكترونية، وقرأت بعض فصوله، بدون شغف.. للأمانة.
بيني وبين طه حسين أكثر من سوء فهم، بيننا سوء توقيت.. يحول الأمر إلى “معركة” بين أعمى وأعمى. معركة انتصر فيها الأعمى بدون أن يخلع نظارتيه السوادوين!
Leave a Reply