وحدها إسرائيل في تلك البقعة المضطربة من العالم، التي يطلق عليها تسمية «الشرق الأوسط»، تثبت المرة تلو الأخرى، أنها الأقدر على حفظ «النوع» وسط المخاطر والتهديدات التي تمثل كل حقبة بوجهها، فتخرج من فضاء الانفتاح الزائف على الحلول لتدخل مجدداً إلى شرنقة التقوقع والانعزال عن كل المؤثرات التي من شأنها أن تزعزع قناعات خليطها السكاني العجيب بأنهم لا يعيشون ويستمرون في البقاء إلا باستمرار الشعور بـ«الخطر الأبدي» الذي زينته لهم الثقافة الصهيونية المنمقة بتلاوين «توراتية».
بعد الحرب الأخيرة التي شنّتها آلة الحرب الإسرائيلية الجبارة على قطاع غزة شبه الأعزل من السلاح ووسائل الصمود، أُطلقت في وسائل الإعلام الإسرائيلية روايات منقولة عن جنود إسرائيليين تغلغلوا في بعض المناطق الحدودية مع القطاع، أنهم رأوا فتاة حسناء تعترض طريقهم وتمنعهم من التوجه إلى أحد المنازل الفلسطينية، ليتبين بعدها، وفق الروايات، أن المنزل كان مفخخاً وفيه مقاومون من رجال حركة «حماس» (…).بعض حاخامات اليهود سئلوا عن هذه «الواقعة» فأكدوها وقالوا إن تلك الفتاة لم تكن سوى «راحيل» الزوجة الثانية ليعقوب ووالدة يوسف وأخيه الأصغر بنيامين، والتي يعتقد اليهود بوجود قبرها في منطقة بيت لحم جنوب القدس. وحين عرض الأمر على رئيس طائفة اليهود الشرقيين والزعيم الروحي لحركة شاس عوفاديا يوسف لاستجلاء «الحقيقة» أجاب مؤكداً:«نعم إنها راحيل، وأنا أرسلتها!».الناخبون الإسرائيليون الذين توجهوا بإقبال مرتفع إلى صناديق الاقتراع يوم الثلاثاء الماضي، ربما تذكروا «الدعاء» الذي أطلقه زعيم الحركة التي تدعو إلى إبادة العرب، بأن «يقضي» الله على آرييل شارون بسبب خطته للانسحاب من قطاع غزة. يومها قال الحاخام عوفاديا «فليقضِ الله عليه.. إنه يعذب شعب إسرائيل».وبعض الناخبين الإسرائيليين الذين استمعوا إلى روايات جنودهم عن اعتراض راحيل لهم و«حمايتهم» من الموت المحقق، ربما فطنوا إلى «العذاب» الذي يقبع في أتونه آرييل شارون هذه الآونة وهو في غيبوبته الممتدة منذ نحو ثلاث سنوات، فصدقوا رواية ظهور راحيل و«مبعوثيتها» من قبل حاخامهم الأشد كرهاً للعرب، فاندفعوا نحو رموز اليمين واليمين المتطرف مانحينه المزيد من المقاعد على حساب بناة الدولة العبرية من مخضرمي «حزب العمل» الذي فاق عدد الأوسمة على صدر رئيسه إيهود باراك عدد المقاعد التي حصدها، في ظاهرة لم يشهد المجتمع الإسرائيلي الناخب مثيلاً لها في تاريخه.
قبل وخلال وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة أطلت «راحيل» السياسة الإسرائيلية تسيبي ليفني على جمهور حزبها وجنودها مراراً، داعية إلى سحق الحركة الإسلامية في غزة دون هوادة. بل إنها زاودت على خبير القتل إيهود باراك بدعواتها لمتابعة الحرب بصورة أكثر قسوة مع كل سقوط لصاروخ قسام البدائي الصنع على المستعمرات الإسرائيلية، فلم تذهب دعواتها هباء في سوق الانتخابات، وحصل حزبها «كاديما» على أكبر عدد من المقاعد في الكنيست الجديدة، غير أن المكافأة الانتخابية هذه لـ«حسناء كاديما» التي وفرت «الحماية السياسية» اللازمة للمذبحة في غزة وطارت على عجل إلى واشنطن لتوقع مع وزيرة الخارجية المنصرفة كونداليزا رايس اتفاق شراكة لمنع تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، قبل الإعلان عن وقف لإطلاق النار من جانب واحد.. هذه المكافأة بدت أشبه بمن يتلقى كوباً من العصير بعد التبرع بدمه ليتمكن من النهوض والسير دون أن يصاب بالدوار. هذا فيما كان معظم الناخبين يوزعون عطاياهم على بنيامين نتنياهو الذي يحمل اسم الابن الأصغر لـ«راحيل» ويقال إن اسمه الثاني يعني «عطية الله»!.شيع الناخبون الإسرائيليون، إذن بأكبر عدد من المقاعد امرأتهم التي لم يتصلّب حديدها بعد، حارمينها من ان تكون المرأة الثانية في التاريخ الصهيوني التي تتولى رئاسة الحكومة، بعد تجربة رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير التي أطاحت بها تداعيات «حرب تشرين» عام 1973.أعطى الناخبون الإسرائيليون تفويضاً ولو منقوصاً، إلى زعيم الليكود، سوف يضطره إلى كسب ود باقي الأحزاب اليمينية المتطرفة وعلى رأسها «إسرائيل بيتنا» الذي يدعو زعيمه أفيغدور ليبرمان إلى طرد ما تبقى من الفلسطينيين من أراضي 48، و«بشّر» أتباعه بأن أولى مهمات الحكومة الإسرائيلية الجديدة يجب أن تكون القضاء على حركة «حماس».فازت تسيبني ليفني في المعركة الانتخابية، غير أنها خسرت على الأرجح المعركة السياسية لصالح الأكثر تطرفاً منها في نظر الناخين الإسرائيليين، وعادت إسرائيل الى عتمة عزلتها، في وقت تخرج أميركا إلى الأضواء الدبلوماسية مع الإدارة الجديدة، في معادلة تتكرر منذ أن صعد الليكود لأول مرة إلى سدة الحكم في أواخر سبعينات القرن الماضي مع ميناحيم بيغن وكان من أبرز إنجازاته إخراج أكبر ثقل بشري وعسكري عربي من معادلة الصراع العربي-الإسرائيلي بواسطة معاهدة كامب ديفيد مع مصر.كانت السياسية الصاعدة تسيبني ليفني قد لجأت إلى تقنيات تخويف الناخب الإسرائيلي من الواقفين إلى يمينها من مغبة اصطدام المصالح الإسرائيلية في حال فوز الليكود مع الرؤية الأميركية الجديدة لحل الصراع الإقليمي الذي بات الصراع العربي-الإسرائيلي جزءاً منه، غير أن عقدة الخوف من السلام المترسخة في أذهان الإسرائيليين وأوهام السحق الدموي الذي مارسته «كاديما» ضد قطاع غزة ببشره وحجره أعلت من شأن الأصوات الصهيونية والمتدينة الداعية لى فرض سلام القتل والإخضاع، طالما أن العرب أنظمة وشعوباً يعيشون أكثر حقباتهم بؤساً منذ خروجهم من الأندلس، لدرجة عرض زعيم حركة «شاس» الدينية إياه عوفاديا يوسف قبل أشهر «جهوده الخيرة» على كل من الشيخ يوسف القرضاوي رئيس اتحاد علماء المسلمين ونائبه الإيراني الشيخ محمد علي التسخيري لرأب الصدع بين السنة والشيعة تحت رعايته في معاليه أدوميم!.مع نتائج الانتخابات الإسرائيلية يمكن التخمين، بلا مغامرة، أن المنطقة برمتها دخلت مرحلة جديدة من الجمود القاتل الذي سيحتاج إلى أكثر بكثير من 0031 ضحية في غزة ومثلها في لبنان ناهيك عن أفغانستان «القبلة» السياسية والعسكرية الجديدة لإدارة أوباما التي لا تمتلك حتى الآن أكثر من سياسة النوايا الطيبة تجاه أزمات الصراع الإقليمي في أكثر مناطق العالم أهمية وحساسية للأمن الاقتصادي الأميركي، وهي نوايا لا تعبّد بالضرورة أي طريق إلى «جنة» الحلول.بالانتظار، رابطوا أمام الشاشات واقبضوا جيداً على الريموت كونترول!!
Leave a Reply