عندما وقف الرئيس السابق للمجلس النيابي اللبناني حسين الحسيني على منصة الكلام في الجلسة الاخيرة لمناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، كان الرجل الذي ينتمي الى جيل الساسة الكبار والبرلمانيين العريقين، يتوج نحو ثلاث سنوات من الصمت الذي هو ابلغ من الكلام، اذا ما قيس الكلام بذاك الذي اتى به ساسة البلاد الاغرار وساسوا به امور الطوائف بلغة ظلت اقرب الى الشوارعية منها الى اي قاموس سياسي، آخر متعارف عليه في «الديموقراطيات».
كلام النائب الحسيني وقع في فضاء لم يعد يتسع للحكمة ولا لصوت العقل، فهذا الفضاء السياسي كان ولا يزال موبوءاً بجراثيم الحرب الاهلية ولم تطهره التوافقات الوطنية والاقليمية والدولية التي انتجت اتفاق الطائف الذي انهى بدوره الحرب الاهلية بما هي رفع للمتاريس الحربية، وبعده اتفاق الدوحة التي توج حقبة احتقان مذهبي بغيض، الا ان الارادة الوطنية الحقيقية بقيت اسيرة الف حساب وحساب، ولم تنجح طبقة السياسيين التي انتجتها الحروب في تمرين ذاتها على الانتقال الى سلم اهلي حقيقي ظل اللبنانيون تواقين لاستتبابه، لكنهم كانوا عند كل محطة في صراعاتهم الداخلية يجتهدون في تجيير النتائج «نصراً» او «غلبة» لمرجعياتهم الخارجية لمزيد من الامعان في استرهان البلاد بناسها ومؤسساتها لارادات ومصالح تلك المرجعيات خارج الحدود، شقيقة او صديقة، عربية او اعجمية او غربية.
«انهم يريدون دولة بلا مؤسسات ووطناً بلا مواطنين» بهذه الشجاعة افرغ الرئيس الحسيني ما يعتمل في صدره وحذر السادة النواب والوزراء والسلطة بأجمعها ان الحفاظ على الوطن ليس بالشيء القليل وان الوطن في خطر اكبر بكثير مما يظن هؤلاء احزاباً وطوائف وسياسيين.
والرئيس الحسيني الذي ينتمي الى الطائفة الشيعية التي تعيش ابهى فترات قوتها ومنعتها بعدما خاض ابناؤها كل الحروب الآخرين على «الساحة» اللبنانية منذ احتضانهم للثورة الفلسطينية في اواخر ستينات القرن الماضي، مقدمين كوكبة لا تنتهي من الشهداء في سبيل القضية الفلسطينية والعربية، والتي مرت بفترات حرجة وازمات وجودية فعلية وهي تتلقى كل اوزار الصراع العربي – الاسرائيلي على تلك المساحة الضيقة في الجنوب اللبناني، هذه الطائفة التي نادى باسمها الامام موسى الصدر على وحدة وطنية تحصن لبنان من تداعيات ذلك الصراع الذي اوكل الاشقاء العرب كل عناوينه وتفاصيله للشقيق الصغير، فحولوه الى مختبر لكل انواع الحروب والصراعات الداخلية والعربية، لرفع الاعباء عن كواهلهم بعدما اختاروا السلامة لانظمتهم القائمة والمستمرة بالشعارات «القومية» و«الوطنية» التي لم تجد لنفسها ترجمة داخل دولهم الوطنية المستقرة ولدى شعوبهم التي ابقوها اسيرة حالات الطوارئ المؤبدة من اجل التفرغ «للصراع» ومقتضياته وليتهم كحّلوا عيون تلك الشعوب بفعل بطولة واحد.
أهي مفارقة ان ينبري «ضمير المجلس النيابي اللبناني» و«حافظ اسرار الطائف» الرئيس الحسيني الى إلقاء مطالعته الطافحة بالمرارة امام مجلس تناوش اعضاؤه برصاص الكلام على مدى خمسة ايام، مستحضرين كل قاموس الشتائم ومصطلحات التحريض الطائفي والمذهبي، اهي مفارقة وهو النائب «الشيعي» الذي كان بمقدوره ان يركب موجة الزجالين والمطبلين من كل الطوائف والمذاهب وهو الذي حفظت له المقاومة مقعده النيابي في «بوسطة غازي كنعان» النيابية، بدلاً من ان يقف امام مرأة الضمير ليقول للمعتدين بمواقعهم ومقاعدهم: ان هذا المجلس غير شرعي لانه نتج عن قانون انتخابي اشوه لا يعكس صحة التمثيل الشعبي؟ كاد الرئيس الحسيني ان يحذر طائفته وهو يذكرها بلباقة السياسي المتمرس والدبلوماسي الحاذق في صياغة الكلام، بعروبتها ووطنيتها التي لا بديل لها عنها في بلد علة وجوده هو التنوع، كاد ان يحذرها بألا تأخذها العزة بالاثم، لا سمح الله، وان يتحول فعل مقاومتها النقي الذي انجب اغلى تحرير في تاريخ الصراع مع عدو امتهم العربية، ممهور بالدماء والعذاب والتشرد وشطف العيش على مدى عقود طويلة، الى عبء عليها وعلى اجيالها وعلى الشركاء الآخرين في الوطن فيخرجوا جميعهم خاسرين وان زُيّن لفئة منهم ان الامور قد استتبت لها وان الدولة ومؤسساتها صارت «لزوم ما لا يلزم»، إذ هي العاجزة الضعيفة التي بدلاً من رفدها بعناصر القوة والاستقرار والتمكين لتكون المرجع الاول والاخير للمواطن بات ينظر اليها كـ«عالة» على «الاقوياء» من طوائفها يتقاذفون مصيرها بين ارجلهم وتمتهن مؤسساتها كل يوم وتمتحن المؤسسة الاكثر تعويلاً عليها في اعادة اللحمة الى ابناء الوطن، وهي مؤسسة الجيش منذ نحو ثلاث سنوات، فكلما تخطت امتحاناً ابتليت بآخر اشد قسوة، أو على حد وصف الشاعر «كلما داويت جرحاً سال جرح».
ففي طرابلس سال بالامس جرح بليغ اصاب الجيش وثلة من الفقراء والمحيطين بجنوده المتوجهين من اقصى الشمال الى اقاصي الجنوب، من حلبا الى بنت جبيل، على يد الإرهاب الذي نما وينمو على ضفاف الجرح الداخلي المفتوح والمكشوف على كل جراثيم الإرهاب، هذا فيما الطبقة السياسية تتأهب، بعد معركة البيان الوزاري واشتباكات الثقة تحت قبة البرلمان، الى جولة جديدة من المماحكات والمناورات على قضية التعيينات الامنية والقضائية. فالامن والقضاء غير مسموح لهما في دولة «الآذاريين» ان يكونا خارج نطاق التبعية والاسترهان لارادات السياسيين القابضين على خناق المؤسسات بسطوة اسلحتهم واموالهم، ولأن الامن والقضاء لا يراد لهما ان يكونا في خدمة دولة القانون التي يشكل قيامها كابوساً لمن عاشوا خارج الدولة وقوانينها قبل ان تصبح الدولة هامشهم الاضعف، يلجأون اليها فقط عند الملمات والاستحقاقات الاقليمية والدولية الخطيرة.
هكذا جاء تفجير طرابلس الارهابي البشع ليذكر كل اللبنانيين بـ«أقويائهم» و«ضعفائهم» ب«منتصريهم» و«مهزوميهم» ان امنهم ان لم يتحقق بوحدتهم وتواضع كل فئاتهم لن تحققه كل الاجراءات والاحتياطات التي تستنزف طاقات جيشهم في فرضها ومواكبتها على مدار الساعة بين الاخوة المتقاتلين في «البعل» و«التل»، في بيروت والجيل والبقاع.
انه «النموذج» الذي ظل يخشاه اللبنانيون وهم يرون الى ما حل بأشقائهم العراقيين من كوارث الحروب المذهبية التي رسمت بالدم والحديد والنار حدود الكيانات المذهبية والقومية التي تتأهب للقيام تحت حراب المحتلين، ويذرّ بقرنه البشع من البوابة الشمالية بعدما عاد مقاولو القتل من اجازتهم القصيرة وسط الجلبة وفوضى التخاطب بين «ممثلي الشعب»، انسلّوا بين الخطاب والمداخلة، بين التحليل والتحذير، بين الوعد والوعيد وصفعوا الجميع على وجوههم
ونثروا على بذلاتهم الانيقة ومواكبهم الحصينة دماء وبقايا اشلاء لجنود منسيين عند موقف للحافلات بين جموع فقراء الوطن من باعة الكعك والليمون وماسحي الاحذية.
كانوا على اهبة العبور من الشمال الى الجنوب يصلون بأعمارهم الندية واجسادهم الفتية ما خرّبته «السياسة».
وغداً يتقدم «المسؤولون» ببذلاتهم الرسمية ونظاراتهم الداكنة مواكب التشييع لشهداء سقطوا وسيظلون يسقطون في المكان الخطأ والزمان الخطأ حتى يدرك «انبياء» الطوائف ان لا بديل عن جيش يمارس دوره الكامل على كل بقعة من ارض الوطن ويضرب بأيد من حديد كل عابث بأمن الناس وامنه من حلبا الى بنت جبيل.
بين «مسرح» الاضواء في ساحة النجمة، ومسرح الدم في طرابلس آن للبنانيين من كل الطوائف ان يصحوا ويهدموا تلك الاعمدة اذا ارادوا لهذه المسرحية وهؤلاء الممثلين ان يكفوا عن الولوغ في دمائهم والعبث بكراماتهم.
Leave a Reply