اكتوى اللبنانيون بنار التمديد لمجلس النواب الذي انتهت ولايته الممددة في نهاية حزيران الماضي لدورة كاملة، ليمدد النواب لأنفسهم مرة ثالثة لمدة 11 شهراً، أي لتاريخ 21 أيار 2018، وذلك لأسباب تقنية، بعد صدور قانون انتخاب جديد يعتمد النظام النسبي لأول مرة في لبنان منذ الاستقلال في العام 1943، إذ كانت الانتخابات النيابية تجري على أساس النظام الأكثري.
البطاقة الممغنطة
وفي القانون الجديد، اعتُمدت إصلاحات فيه، ومنها اعتماد البطاقة الممغنطة وفق المادة 84 منه، والتي تتيح للناخب أن يقترع في مكان سكنه وكذلك للمغتربين اللبنانيين في العالم، وهو مطلب قديم لمشاركة هؤلاء في الحياة السياسية اللبنانية، ويكون ممثلون عنهم في دول الانتشار.
فرض اعتماد البطاقة الممغنطة، التمديد الثالث ولكن تقنياً، في حين كان في المرتين السابقتين لأسباب أمنية في المرة الأولى العام 2013، تحت وطأة الأحداث الأمنية التي كانت في طرابلس نتيجة الاشتباكات بين باب التبانة من جهة وجبل محسن من الجهة الثانية، إضافة إلى تواجد جماعات إرهابية في عرسال وجرودها، وما بدأوا يشكلونه من تهديد للأمن والاستقرار، وكذلك حركة الشيخ أحمد الأسير في شرق صيدا في بلدة عبرا، والذي كان يقطع الطرقات ويقيم الإعتصامات ويؤجج الصراع المذهبي السّنّي–الشيعي، وهذا ما استدعى أن يطلب «تيار المستقبل» من الرئيس نبيه برّي التمديد لمدة 17 شهراً لمجلس النواب، حتى يستقر الوضع الأمني، فوافق رئيس مجلس النواب تحت عنوان الحفاظ على الاعتدال السنّي الذي يمثله «تيار المستقبل» ورئيسه سعد الحريري كما قال الرئيس برّي الذي رفض أيضاً إقرار قانون للانتخابات كانت أقرّته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وقدمه وزير الداخلية مروان شربل ويعتمد النسبية ويوزّع الدوائر على 13.
انتفاء سبب التمديد
انتفى السبب الأمني للتمديد الأول، وظهر آخر سياسي، يتعلّق بشغور منصب رئاسة الجمهورية، وقيام الحكومة التي كان يترأسها تمام سلام بصلاحياتها موزعة على 24 وزير برتبة رئيس، فكان أن رفض أطراف مسيحية حصول تشريع في مجلس النواب، في ظل الصراع في الرئاسة الأولى، ولم تجرَ الانتخابات النيابية التي شكّلت حكومة سلام للإشراف عليها، وحصل التمديد الثاني لمجلس النواب للمدة المتبقية من ولايته وهي 31 شهراً أي حوالي عامين وسبعة أشهر.
وبعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، تحرك موضوع الانتخابات النيابية، التي أكّد الرئيس المنتخب في خطاب القسم أنه ملتزم إجراءها في موعدها مع قانون انتخاب جديد، واستخدم صلاحياته الدستورية، فعلّق العمل في مجلس النواب لمدة شهر، وفق المادة 58 من الدستور، وقطع الطريق على التمديد، فأقرّ القانون، وطلب الرئيس عون أن تُجرى الانتخابات بعد ثلاثة أشهر من صدور القانون في الجريدة الرسمية، أي في أيلول، لكن وزير الداخلية نهاد المشنوق، أعلن أن اعتماد البطاقة الممغنطة يتطلب نحو عشرة أشهر للانتهاء منها، وأن الانتخابات لن تحصل قبل مطلع أيار المقبل، فتمّت الموافقة على أن تُجرى في 6 أيار من العام 2018، وقبل أسبوعين من انتهاء ولاية المجلس الذي مدّد لنفسه للمرة الثالثة.
تشكيك بالمبلغ
حصل التمديد التقني، ليتبيّن للوزير المشنوق أن البطاقة الممغنطة قد يصعب إصدارها في الفترة التي حُدّدت، ومن الأفضل اللجوء إلى البطاقة البيومترية، وهي بطاقة الهوية الحديثة، وأقرّها مجلس الوزراء بعد أن تعهّد الوزير المشنوق أن ينتهي من توزيعها خلال مهلة أقصاها أربعة أشهر، إذ أن الشركة التي سيُسند إليها تصنيعها وطباعتها، تستطيع أن تنجز نحو مليون بطاقة شهرياً، وأن عدد الناخبين هو حوالي ٣.٧ ملايين، وهي الشركة نفسها التي تقوم بصناعة بطاقة الهوية منذ العام 1997، وباستطاعتها تنفيذ البطاقة «البيومترية». وبسبب ضيق الوقت وعدم وجود إمكانية لطرح مناقصات لإنجاز البطاقة الممغنطة في غضون ثمانية أشهر قبل الانتخابات، تمّت الموافقة على الشركة نفسها، وإن صدرت مواقف سياسية تشكك في المبلغ الذي قدرته وزارة الداخلية بحوالي 130 مليون دولار، تكلفة للبطاقات الجديدة.
وقد ذكرت أطراف سياسية أن البطاقة الواحدة تكلف نحو ثلاثة دولارات، وبالتالي 4 ملايين بطاقة تكلف 12 مليون دولار، كما أنها غير إلزامية في هذه الدورة الانتخابية، بل في الدورة المقبلة. وطالب المنتقدون بوجوب مرور عقد البطاقات البيومترية على إدارة المناقصات التي كشفت في أكثر من مناسبة ممارسات مثيرة للشكوك منها التلاعب في استجرار الكهرباء من البواخر، إضافة إلى كشف صفقات واحتيال وغش ونهب للمال العام في مشاريع أخرى، آخرها في السوق الحرة في مطار بيروت.
مفاجأة برّي
ومع عدم تجهيز البطاقة الممغنطة، والتشكيك بإنجاز البيومترية مع كلفتها العالية، فاجأ الرئيس نبيه برّي اللبنانيين بتقديم اقتراح قانون معجّل مكرّر تقدمت به كتلته النيابية (التحرير والتنمية) استناداً إلى المادة 18 من الدستور والمادتين 101 و110 من النظام الداخلي لمجلس النواب، والذي يقضي يتقصير مدة ولاية مجلس النواب الممدّدة حتى 31 كانون الأول من العام الحالي، على أن تجرى الانتخابات خلال ثلاثة أشهر قبل انتهاء الولاية، والاقتراع ببطاقة الهوية أو جواز السفر كما ورد في القانون أيضاً، على أن تستمر وزارة الداخلية بإصدار البطاقة «البيومترية» وتجري مناقصة لها وفق القانون، لإزالة الشكوك ولتوزيعها بشكل مريح على المواطنين بمعدل مليون بطاقة أو أكثر سنوياً.
انتخابات مبكرة
هذا الاقتراح علّل أسبابه وموجباته الرئيس برّي وفق ما جاء في مؤتمره الصحافي، بأن التمديد حصل على أساس اعتماد البطاقة الممغنطة، ولما لم تتمكن وزارة الداخلية من انجازها، فإن السبب انتفى، وبالتالي وجب إجراء انتخابات نيابية مبكرة، وتقصير الولاية الممدة، وهو الإتفاق غير المكتوب الذي جرى التوصل إليه في أثناء اجتماعات اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة قانون الانتخاب.
وحشر الرئيس برّي الجميع في اقتراح القانون، وقطع الطريق على مَن مازال يفكر بالتمديد الرابع لمجلس النواب، وهو العالم بتفكير ومخططات كل القوى السياسية، وقد تناهت معلومات له، بأنه وتحت ذريعة عدم إنجاز البطاقة الانتخابية، سوف يُمدّد لمجلس النواب، تحت ذريعة ضيق الوقت، فسبق الآخرين بالدعوة إلى الانتخابات النيابية المبكرة، التي كان رئيس الجمهورية صاحب الدعوة إليها، إذا كانت ثمة عوائق في طريق إنجاز البطاقة الانتخابية، لأنه التزم أمام المواطنين بإجرائها وفق قانون جديد، وهو يستعجل حصولها، كي تفرز مجلساً نيابياً جديداً في تمثيل سليم وقد جاء القانون الجديد الذي اعتمد النسبية ليصحح هذا التمثيل المشكو منه منذ عقود.
باسيل يعترض
لكن رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل اعتبر أن تقريب موعد الانتخابات يضرب الإصلاحات في قانون الانتخاب، وتحديداً البطاقة الانتخابية الإلكترونية التي تتيح للناخب أن يقترع في مكان سكنه وتشجّع على الانتخابات وتزيد من رفع نسبة المقترعين، وهو ما يكشف عن مزيد من التناقض بين حركة «أمل» و«التيار الحر»، والتباعد بينهما في أكثر من ملف داخلي، حيث يدخل «حزب الله» وسيطاً بين الطرفين اللذين يربطهما تحالف استراتيجي في محور المقاومة والعداء لإسرائيل والعلاقة مع سوريا وارتباط المسيحيين بمشرقيتهم.
فبالإضافة إلى الخلاف حول إنجاز البطاقة الانتخابية في موعدها، فإن التسجيل المسبق للناخبين في أماكن سكنهم، كان موقع تباين أيضاً بين مكونات الحكومة، إذ أيّد كل من حركة «أمل» و«حزب الله» و«المردة» و«القومي» التسجيل المسبق للناخبين، ورفضه كل من «التيار الحر» و«تيار المستقبل» اللذين يلتقيان أيضاً على رفض الانتخابات المبكرة.
سجالات داخلية
وسيخلق تقديم موعد الانتخابات سجالات داخلية حوله، خلال الأسابيع المقبلة، قبل أن يعرض الرئيس برّي اقتراح القانون المعجّل المكرّر على الجلسة العامة لمناقشته، والتي لن تكون بعيدة زمنياً، وربما تكون قبل نهاية أيلول، لتكون فترة حل مجلس النواب قبل ثلاثة أشهر، والانتخابات خلالها، وهو ما سيفرض واقعاً سياسياً جديداً إذا ما سلك الاقتراح طريقه إلى الإقرار في مجلس النواب، ومن خلاله يكشف الرئيس برّي مَن يريد التمديد ومَن يرفضه، وهو باقتراحه هذا يقدم للعالم، صورة إيجابية وجميلة عن لبنان الذي بدأ قبل نحو عام انتظام عمل مؤسساته الدستورية بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وإقرار قانون انتخاب، ودراسة موازنة وإصدار تعيينات، وطرد الإرهاب من أرضه في جرود السلسلة الشرقية وفرض الأمن، كل هذه الإنجازات تتوّجها انتخابات نيابية، وتنهي سيناريو التمديد.
Leave a Reply