بينما كنت عائدة إلى منزلي مساء الخميس الماضي من النادي الرياضي، اتصلت بي صديقتي الدكتورة دجلة السماوي لتدعوني إلى حضور ندوة ثقافية في مركز كربلاء الإسلامي الواقع على شارع وورن، فكرت لحظتها بسرعة خاطفة أن هذه فرصة لممارسة رياضة من نوع آخر، فكم هي نعمة في أن تتاح للإنسان ممارسة الرياضتين، البدنية والروحية.
ما أن دخلت القاعة حتى وجدت كوكبة من الحضور ذوي اختصاصات مختلفة وجلهم منحدرون من جذور شرق أوسطية، جمعهم الشيخ هشام الحسيني مرشد المركز، وهو الشيخ الذي يهوى الثقافة والشعر، فكم هو جميل أن تقوم المؤسسات الدينية بتجسيد وتعميق الأواصر الروحية بين أصحاب الاختصاصات المتعددة وتوحدهم باتجاه تحقيق الهدف الذي يرمي إلى إيصال المعرفة لأكبر شريحة من المجتمع.
اعتلى المنبر، الدكتور جان قاصد وهو صاحب صالون أدبي، وبالإضافة إلى سعة نشاطه الاجتماعي وإنتاجه الفكري، فهو طبيب متخصص بعلم الجينات الذي يعد من أحدث المبتكرات العلمية في عصرنا الراهن، لما لهذا الاختصاص من أهمية بالغة في استكشاف عالم الوراثة وتأثيرها في تحسين النسل.
إن تحليل الجينات الوراثية أو ما يسمى بالفحص الجيني هو عبارة عن تحليل للمادة الوراثية الموجودة في الخلية التي توصل إلى معرفة التكوين الجيني لأي شخص وكذلك لأغراض متعددة، منها ما يستخدم عند ارتكاب جريمة ما، حيث يمكن عن طريق تحليل نقطة دم نازفة في مكان وقوع الجريمة، التعرف على صاحبها وبالتالي كشف هوية مرتكب الجرم، إذ تطلق على مثل هذه الحالة تسمية (البصمة الجينية)، كما يمكن أخذ عينات من اللعاب لفحصه.
وهناك أيضاً، فحص الـDNA الذي يحدد أبوية الطفل، وأيضاً فحص ما قبل الزواج للتأكد من أن الطرفين لا يحملان أياً من الأمراض الوراثية، ومن المعلوم أن فوائد مثل هذا الفحص متعددة، حيث يؤدي دوراً مهماً في إمكانية تجنب الأمراض الوراثية والتشوهات الخلقية الناجمة في معظمها عن زواج الأقارب، كما أن هناك عددا من الأمراض الوراثية التي إن تم تشخيصها وعلاجها مبكراً، فإنها تسهم في منع ظهور أعراض المرض المحدد.
وتعتبر نتائج تحاليل الجينات دقيقة إلى حد كبير، وفي الكثير من الأحيان تعطي معلومات مفيدة عن بعض الأمراض الوراثية، رغم أنه في بعض الحالات لا تعطي إجابة مؤكدة كتحاليل الجينات للأمراض السرطانية الوراثية، إذ حتى لو جاءت التحاليل إيجابية فذلك لا يعني أن الشخص المعني سيصاب بالسرطان.
حقاً كانت محاضرة قيمة ألقاها الدكتور جان قاصد بكل انسيابية حيث سادها التبسيط في الطرح، إذ يفهمها المستمع مهما كان مستواه التعليمي، خاصة عندما أثرى المحاضرة بعرض الصور التوضيحية، كما كان ملفتاً تميزه بسعة صدره حيث اندمج مع الحاضرين بتعليقاتهم من خلال محاولاته في شرح الإجابة على أسئلتهم، وهذه من سمات الطبيب الناجح في تواضعه والحرص على إيصال عصارة علمه لأبناء جلدته.
ولا يفوتني هنا التأكيد على أن مثل هذه النماذج العلمية التي نأمل استضافتها في كافة المراكز الدينية، تشكل حلقة الوصل ما بين العلم والدين أمام أبناء الجالية، كما أن مثل هذه المبادرات تجمع بين فقه الدين والانفتاح على قضايا العصر ومواكبة التطور العلمي مما يؤدي إلى الاقتراب من هموم الناس ومحاولة مساعدتهم في سد الفراغ الثقافي، كذلك يجعل الجيل الجديد من الشباب ينجذبون نحو المساجد وضمان الوسيلة التي تبعدهم عن التفكير السلبي أو الانجراف نحو متاهات السوء كتعاطي المخدرات مثلاً.
أشد على مبادرة الشيخ الحسيني متمنية الاستمرار بإقامة مثل هكذا ندوات لما فيها من منفعة لكل شرائح المجتمع، فدور المراكز الدينية لا يقتصر على الجانب الديني وإنما يتعداه إلى نشر الوعي العلمي وبذلك تتوطد العلاقة بين الدين والعلم.
Leave a Reply