لا يمكن الجزم بطبيعة الدور الذي أوكل الى سوريا في محاولة حلحلة أزمة تشكيل الحكومة العراقية، الممتدة منذ آذار (مارس) الماضي، لكن الواضح أن القوى المعنية بالشأن العراقي وعلى رأسها الإدارة الأميركية لم تعد تمانع أن يلعب النظام السوري دور ضابط الايقاع في “السمفونية العراقية” التي تنافرت أصوات عازفيها في الأشهر الأخيرة حتى بلغت مستوى “كل يغني على ليلاه”.
و”ليلى” العراق المريضة التي ناجاها الشاعر العراقي في غابر الزمن، متمنيا لو يكون “الطبيب المدوايا” لم تعد تلك الفتاة التي يعتصر ألماً لمرضها قلب الشاعر المتيم، بل صارت حكومة العراق التي يريد لها العراقيون أن تحفظ وحدتهم من التمزق وهم خاضوا لأجلها انتخابات، على صدى التفجيرات وعلى وقع المجازر البشعة عبرت الى حد كبير عن توجهاتهم في الحفاظ على الوحدة الجغرافية والسياسية لبلاد الرافدين، إلا أن كثرة “الأطباء المداوين” تزيد من عياء “ليلاهم” وتكاد تكتم أنفاسها لشدة “الاحتضان” و”الخوف عليها” من دول الإقليم المجاورة.
وإذ اتخذ النظام في دمشق موقفا متشددا ازاء مسألة تشكيل حكومة عراقية تمثل مختلف مكونات الشعب العراقي متناغما الى حد كبير مع الموقف السعودي، ومظهرا تباينا عن التوجهات الإيرانية التي سعت ولاتزال الى جمع الأضداد الشيعية تحت عباءتها و”إقناعهم” بتولي نوري المالكي رئاسة الحكومة، كانت دمشق لاتزال تبدي تحفظا شديدا على شخصية المالكي وتذكر نفسها وحلفاءها بمواقفه في السنتين الأخيرتين من حكمه والتي كان ابرزها اتهام دمشق بالعمل على زعزعة الاستقرار في العراق.
واذا كان للنظام في دمشق “ذاكرة الفيل” كما وصفها أحد الصحفيين اللبنانيين المقربين من سياساتها، وهي ذاكرة تجعل النظام لا ينسى من أساؤوا اليه خلال حقبة الاضطراب اللبناني التي تلت اغتيال رئيس حكومته السابق رفيق الحريري، فإن الأمر لا يبدو منطبقاً على الساحة العراقية هذه المرة، وحيث تبدو الذاكرة لسورية على استعداد للتناسي والتسامح، تحت سقف التحالف الاستراتيجي الذي يجمع النظام السوري مع النظام في طهران والتفاهم مع تركيا، وغض بصر أميركي تمليه المواعيد والاستحقاقات التي ألزم الرئيس باراك أوباما نفسه بها، تاركا لللاعبين الإقليميين هامشا أكبر من التحرك لعل وعسى يرث هؤلاء اللاعبون الرمال العراقية المتحركة، وتُعفى الإدارة الأميركية من مسؤولياتها “الأخلاقية” والسياسية عن ترك العراق ساحة للمواجهات الدموية وعرضة للشرذمة والتفتت، بعدما حطم الغزو والاحتلال الأميركيين كل مقومات الدولة العراقية، واعاداها الى المرحلة الجنينية لتشكل الدول، بكل تعقيداتها ومشاكلها الاثنية والمذهبية.
فإذا صحت التكهنات بأن دمشق مقبلة في الأيام أو الأسابيع القادمة على اخراج “سيناريو حكومي عراقي” يراعي الرغبة الإيرانية القوية في الابقاء على تفوق شيعي في الحكم وعلى نوري المالكي على رأس الحكومة المقبلة فإن أحد الأثمان المباشرة لهذا الدور السوري سيكون الإطاحة بالتفاهم المعروف بـ”تفاهم سين-سين” على الساحة اللبنانية، مع ما لهذه الإطاحة من تداعيات سلبية على صعيد الأزمة اللبنانية المفتوحة حاليا على قضية المحكمة الدولية وقرارها الظني. ويمكن للمراقب لمجرى العلاقات السورية-السعودية بعد عودة الدفء اليها منذ قمة الكويت الاقتصادية قبل عام، أن هذه العلاقات كانت ولاتزال رهن القدرة السورية على لجم الطموحات الإيرانية في العراق ولبنان، مقابل إعادة إطلاق اليد السورية في لبنان بتفويض عربي، وهي معادلة ترك الأميركيون أمر تجريب جدواها للملك السعودي وكان من ثمارها البارزة “اتفاق الدوحة” الذي جنب لبنان (مؤقتا) حربا مذهبية كانت تُذر بقرنها عقب حوادث 7 ايار 2008 في العاصمة اللبنانية.
على أن التفاهم السوري-السعودي ظل أسير همّ سياسي، لم يغادر التفكير السوري للحظة، وهو كيفية التخلص من المحكمة الدولية. ومنذ أن سربت بـ”سحر ساحر” المعلومات عن قرار سيصدره المدعي العام للمحكمة دانيال بالمار، إلى صحيفة دير شبيغل الألمانية، ونشرته لاحقا صحيفتان فرنسيتان، وفيه تحول جذري في الاتهام نحو “حزب الله” والتقارب السوري-السعودي، يتعرض لامتحان جدي وخطير، كان على الملك السعودي أن يحاول نزع فتيله لدى أصدقائه الأوروبيين والأميركيين. واذ لم يتلكأ الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز عن القيام بهذه المهمة إلا أنه بدا أن دون محاولته خرط القتاد.
فالأوروبيون وعلى رأسهم الفرنسيون لم يستطيعوا تقديم هذه “الخدمة” للملك السعودي، وأحالوه الى الأميركيين الذين “اعتذروا” بدورهم عن خدمته، معتبرين أن المحكمة باتت مؤسسة دولية مستقلة لايمكن الغاؤها أو التأثير في مجراها.
لم يطل الرد السوري على الإخفاق السعودي في المهمة التي كانت دمشق تأمل بنجاحها، والتي لم تسفر سوى عن تأجيل صدور القرار الظني من شهر أيلول (الماضي) حتى كانون أول القادم، فشهدت الساحة اللبنانية موجة عارمة من الهجوم على المحكمة وضعت “ولي الدم” ورئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري أمام خيارين أحلاهما مر: التفريط بالمحكمة وبالتالي بمستقبله السياسي الذي بني على شعار الحقيقة والعدالة. أوالتمسك بها، وتعريض موقعه والبلاد برمتها الى خطر اللاستقرار الأمني والسياسي، ومخاطر الفتنة المذهبية التي لكثرة الحديث عنها والتهويل بها، على مدار الساعة بات اللبنانيون يعيشون أجواءها وينتظرون هبوب عاصفتها في أية لحظة.
ولم يأت الموقف الذي أدلى به وزير الخارجية السوري وليد المعلم لصحيفة وول ستريت جورنال على هامش مشاركته في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل يومين إلا ليبعث باشارات اكثر اقلاقا الى نفاد صلاحية التفاهم السوري-السعودي. لا حاجة هنا الى استعراض المواقف اللبنانية من أزمة المحكمة وقرارها الظني في الأسابيع القليلة الماضية، والتي وصلت الى مستوى غير مسبوق من انعدام الحد الأدنى من أساليب التخاطب السياسي اللائق، ووضع البلاد على شفير انفجار سياسي وأمني يصعب التكهن بمداه.
وعودة الى أزمة تشكيل الحكومة العراقية، يبدو من سوء حظ السياسي العراقي العلماني الدكتور اياد علاوي أن تشابك الخيوط الاقليمية وامتدادها بين طهران الى بيروت ودمشق ورام الله والقاهرة وتل أبيب، والفشل المدوي الذي ينتظر مصير المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية واسرائيل على وقع الخطوة الاسرائيلية المتعجرفة بعدم الاستماع الى نصائح الادارة الأميركية والمضي في قرار الغاء تجميد الاستيطان، كلها عوامل تجعل من حظوظه في تولي رئاسة الحكومة في بغداد سرابا، وبحيث لن تجدي زيارته الطارئة الى دمشق لطلب تدخلها السريع من اجل “اقناع طهران بوقف تدخلها في الشأن العراقي وترك العراقيين الذين انتخبوا ممثليهم في البرلمان يقررون شأنهم الحكومي بعيدا عن الضغوط الخارجية”. فها هو الزعيم الشيعي “العنيد” مقتدى الصدر يسلس القياد أخيرا لرغبة مضيفيه الايرانيين ويفصح أن “الضغوط أمر لا بد منه في العمل السياسي وكل يجر النار الى قرصه”.
هكذا لا يختلف حال اياد علاوي مع دمشق، التي يشاع بقوة ان الرئيس الأسد سيضع في زيارته القريبة المرتقبة الى طهران اللمسات الأخيرة على صفقة عودة المالكي الى رئاسة الحكومة في بغداد، عن حال رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الذي “توهم” أن علاقته الجديدة مع الرئيس السوري وتمتينها تسعفه من ضغوط احراجه فإخراجه في بيروت.
مرة أخرة يثبت االنظام السوري قدرة فائقة على الامساك بمفاصل اللعبة الاقليمية، لكن هذا الامساك يرتب مسؤوليات خطيرة عليه، لا يظن أنه غافل عنها. وهي مسؤوليات تمتد من بغداد الى بيروت وغزة وما بينها من براميل بارود قابلة للاشتعال في أية لحظة اساءة تقدير أو سوء تفسير للنوايا المستنفرة على امتداد الجبهات الداخلية، ومع اسرائيل، التي قد تكون حساباتها أكثر خطورة حتى مما نتصور نحن العرب. وهذا الدور السوري المستعاد له مترتبات ستكشفها التطورات غير البعيدة، التي ستشهدها المنطقة على ضوءفشل عملية التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي.
Leave a Reply