كمال ذبيان – «صدى الوطن» – انشغل اللبنانيون الأسبوع الماضي، بالحرائق التي اشتعلت في أنحاء بلادهم حيث سُجّل أكثر من 110 حرائق كان أكبرها في المشرف قرب الدامور وفي قرنة الحمراء–مزرعة يشوع في المتن الشمالي، إذ وصلت النيران إلى المنازل والمؤسسات التجارية في مشهد غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث من حيث حجم الحرائق الموسمية وتمددها، ذكّر المواطنين، بما يشاهدونه على شاشات التلفزة في دول كأميركا وأستراليا وكندا وغيرها، لاسيما وأن الخسائر لم تقتصر على الأشجار هذه المرة، لكنها طالت البشر والحجر، وسط مطالبات بتجهيزات للإطفاء والدفاع المدني، لاسيما بالطائرات المتخصصة بإخماد الحرائق، والتي اشترت وزارة الداخلية ثلاثاً منها قبل سنوات، لكنها بحاجة إلى صيانة وقطع غيار، في زمن ترشيد الإنفاق.
الحرائق السياسية
وإذا كانت حرائق الطبيعة الكارثية قد أثارت البلبلة بين اللبنانيين وسط تساؤلات حول فرضية أن تكون مفتعلة، ومطالبات بضرورة التحقيق لمعرفة مسببيها، وقد لا يكونون هذه المرة، ممن يسعون إلى جمع الحطب قبل حلول الشتاء، فإن الحرائق السياسية، هي بمثابة كارثة مستمرة تصيب الشعب اللبناني من كل حدب وصوب، في ظل الخلافات الدائمة بين قياداته السياسية، سواء على السياسة الخارجية، كما على الرؤية الاقتصادية، والاستراتيجية الدفاعية، وبناء الدولة وتطبيق القانون، وانتظام عمل المؤسسات… ففي كل يوم حريق سياسي، أو حدث أمني أو خضة مالية أو اقتصادية، وصولاً إلى الأزمات المعيشية التي تتعلق بحياة المواطنين اليومية ولقمة عيشهم، كالخبز والبنزين والدواء.
العلاقة مع سوريا
وفي أحدث الحرائق السياسية التي يشهدها لبنان اليوم، خلاف قديم–متجدد نشب مع مطالبة وزير «حزب الله» في الحكومة، محمد فنيش، بالاستفادة من فتح «معبر البوكمال» عند الحدود السورية–العراقية، وقبله «معبر نصيب» عند الحدود السورية–الأردنية، لنقل الصادرات اللبنانية عبرهما، بما يساهم في تعزيز الإنتاج المحلي وتحسين النمو الاقتصادي. ولكن لتحقيق ذلك على الحكومة اللبنانية أولاً أن تفتح معبراً للحوار مع دمشق، والذي من دونه، فإن أزمة لبنان الاقتصادية ستتعقد وتتفاقم مع تعذر تصريف الإنتاج الزراعي كما الصناعي، والذي في غالبيته يصدّر إلى الدول العربية.
لكن ما اقترحه الوزير فنيش لاقى اعتراضاً فورياً من وزراء «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية»، برفض التواصل مع النظام السوري، الذي راهن الطرفان على سقوطه قبل أن تخيب آمالهما تحت وطأة الإنجازات العسكرية للجيش السوري وحلفائه، والتي أسقطت كل الرهانات الإقليمية والدولية على سقوط دمشق، فبات بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، يقلقهم، مع انفتاح بعض خصوم دمشق على مصالحته، فيما لايزال بعض اللبنانيين ينتظرون ضوءاً أخضر لإعادة العلافات مع الدولة الجارة.
خطاب باسيل
ما قاله الوزير فنيش في جلسة مجلس الوزراء، أثار انقسام الوزراء، إلا أنه كان لافتاً اتخاذ رئيس الحكومة سعد الحريري لموقف وسطي حيال القضية، حتى جاء خطاب وزير الخارجية جبران باسيل في الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي انعقد في القاهرة لبحث العدوان التركي في سوريا، حيث دعا باسيل لأن تعود دمشق إلى الحضن العربي، فأثار غضب رئيس «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، لتُشنّ عليه من قبل ما تبقى من «14 آذار» وخصوم سوريا.
جنبلاط ذكّر –بعد تحفّظ الحريري على كلام باسيل– أن الجيش السوري دخل لبنان على دم والده كمال جنبلاط، وأخرجه دم رفيق الحريري. أما جعجع فقال إن باسيل لا يريد عودة سوريا إلى الحضن العربي، بل يريد عودة الأسد إلى لبنان، والارتماء في حضنه… وغير ذلك من التصريحات السياسية التي طغت على الجوهر الاقتصادي لقطع العلاقات مع سوريا. فأشعل هذا السجال، حريقاً سياسياً جديداً، رافقه تصويب جنبلاط على ذكرى 13 تشرين الأول، ليرد عليه باسيل دون أن يسميه، بأن «مَن ينتظر جثة عدوّه على ضفة النهر» (قاصداً قول جنبلاط عن الرئيس الأسد) «فإن النهر سيجرفه». فحرّك «الاشتراكي» طلابه ومناصريه، في تظاهرة تحت عنوان حماية الحريات، ضد عهد الرئيس ميشال عون الذي وصفه جنبلاط سابقاً بأنه فاشل، قبل أن يتصالح معه، ويلبّي دعوة رئيس الجمهورية لغداء عائلي في المقر الصيفي في بيت الدين، ليتبع ذلك لقاء في اللقلوق بين باسيل والنائب تيمور جنبلاط. إلا أن العلاقة بين الطرفين عادت للتوتر على خلفية مواقف باسيل من سوريا، التي أعلن أنه سيزورها ليبحث مع قيادتها ملف النزوح العالق، وهو ما سبق للرئيس عون أن طرحه أمام الأمم المتحدة، ذاكراً في كلمته أنه قد يزور سوريا للتباحث مع رئيسها بشأن النازحين السوريين الذين يشكّلون عبئاً ديمغرافياً ومالياً واقتصادياً وأمنياً على لبنان. وهي أعباء تشكو منها كل دول الجوار السوري وحتى البعيدة في أوروبا وغيرها.
توجس جنبلاط
يتوجّس جنبلاط خيفة، في كل مرة يطرح موضوع الحوار مع النظام السوري الذي راهن على إسقاطه وانخرط في دعم المعارضة المسلحة ضده، كما ساهم في تحريض بعض أبناء محافظة السويداء في جبل حوران، على محاربة النظام والتعاون مع المسلحين، حتى لو كانوا من «جبهة النصرة» أو «داعش». وهو موقف قد لا يغفره له الرئيس السوري، مما يجعل زعيم المختارة قلقاً ومتوجساً من النظام الذي لا يتوانى عن وصفه بالمجرم، والتذكير بأنه قتل والده، وأنه «سامح لكنه لم ينسَ». لذلك، سيفعل جنبلاط كل ما بوسعه لمنع عودة العلاقات مع سوريا.
إسقاط العهد
لكن ما لفت الانتباه أكثر، هو قول جنبلاط في تغريدة له «مَن أتى بهم الأجنبي يذهب بهم نهر الشعب»، وهي عبارة استعارها من والده الذي قالها في العام 1952، ضد عهد الرئيس بشارة الخوري، حين تشّكلت جبهة معارضة ضده تحت اسم «الجبهة الوطنية الاشتراكية»، وكان من رموزها كميل شمعون، الذي خلف الخوري في رئاسة الجمهورية بعدما تمكن العصيان المدني لمدة ثلاثة أيام في دفع الرئيس الخوري إلى تقديم استقالته، وهو ما يعمل جنبلاط على تكراره بتحريك تظاهرات طلابية بالتنسيق مع جعجع وبعض قوى ما كان يسمى «14 آذار»، لتشكيل جبهة معارضة ضد العهد الذي لازال في النصف الأول من ولايته وقد تكدّست حوله الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية، لتشكل أرضية شعبية خصبة للإطاحة بعون.
لكن جنبلاط يدرك أن موازين القوى الداخلية والإقليمية كما الدولية ليست في صالحه، وهو يعلم أنه قد ينكفئ عن دعوته، كما حصل في مرات سابقة، لكن يبقى السؤال الذي طرحه مراقبون سياسيون، هل أن زعيم المختارة الذي يسترشد بالبوصلات الخارجية، جاءته الإشارة بأن العهد يضعف، وأن الانتفاض عليه ممكن عبر إسقاط التسوية الرئاسية وإشغال «حزب الله» داخلياً بالدفاع عن حليفه ميشال عون، الذي تولى رئاسة الجمهورية بعد فراغ لعامين ونصف العام بدعم من الحزب الذي لن يتركه يسقط، لأن معه يسقط الغطاء السياسي الذي يحمي المقاومة.
فالمقاومة تقدر للعماد عون، أنه لم يتخلَّ عنها في أحلك الظروف، وهو ما يعبّر عنه مسؤولو «حزب الله» في كل المناسبات، وقد جاء لقاء السبع ساعات ونصف الساعة بين الأمين العام السيد حسن نصرالله ورئيس «التيار الوطني الحر»، جبران باسيل، ليؤكد على متانة التحالف وحرص الطرفين على منع إسقاط العهد سواء عبر التلاعب بسعر الليرة مقابل الدولار، أو بالعقوبات الأميركية، أو بتجويع الناس وافتعال الأزمات الاجتماعية والمعيشية… فالطرفان يدركان أن حركة جنبلاط في الشارع، وإن كانت تحت عنوان «حماية الحريات»، ما هي إلا محاولة جديدة للتصويب على العهد لإضعافه تمهيداً لمحاولة إسقاطه.
ولعل «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» يدركان أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فجاءت التظاهرات مساء الخميس الماضي،، لتشكل بداية مرحلة جديدة في التعامل مع الضائقة المالية والاقتصادية التي يعيشها لبنان، عبر الضغط على البنوك المقرضة للدولة اللبنانية لإعادة جدولة الديون التي تلتهم جزءاً كبيراً من الموازنة العامة بدلاً من زيادة الضرائب على المواطنين للحد من العجز المالي المتفاقم.
وقد عمت التظاهرات معظم المناطق اللبنانية وتخللها قطع طرق في أكثر من مدينة وسط غضب عارم من سياسات الحكومة الاقتصادية، فيما حذرت وزيرة الداخلية ريا الحسن على أنّ بديل الإجراءات الحكومية التقشفية هو الانهيار في لبنان.
وفيما فرقت القوى الأمنية، المتظاهرين الذين احتشدوا لساعات في وسط العاصمة بيروت احتجاجاً على الضرائب الجديدة. أعلن مجلس الوزراء عن اجتماع طارئ قبل أن يلغيه الحريري صباحاً (مع صدور هذا العدد)
Leave a Reply