العالم في بحر التوترات
نبيل هيثم – «صدى الوطن»
مثيراً للانتباه، جاءَ التصعيد في بحر آزوف بتوقيته، لا سيما بتشابك أهدافه الداخلية والخارجية، في مرحلة بالغة الحساسية بين العلاقات الدولية، تتجه معها الانظار إلى بوينس آيرس، حيث كان من المفترض أن ترسم القمة المنتظرة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب معالم الاشتباك السياسي في ما تبقى من عمر الولاية الرئاسية الأميركية الحالية.
لا يجادلنّ أحد في أن التحركات الأوكرانية عند مضيق كيرتش تتصف بالطابع الاستفزازي. حتى حلفاء أوكرانيا في الغرب لم يتحرّكوا لنصرة الرئيس الأوكراني بيترو بوروتشينكو كما جرت العادة، من خلال فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا.
التزمت كل من فرنسا وألمانيا الصمت الخجول، بينما اقتصر التصعيد الأميركي على الخطابة التي سرعان ما بددها إعلان الكرملين بأنّ اللقاء الذي لن يحصل بين بوتين وترامب سيجري في موعده وكما كان مقرراً! بخلاف «التهديد» الذي أطلقه سيّد البيت الأبيض بإلغائه على خلفية تطوّر الموقف في بحر آزوف.
مجرد أبعاد داخلية؟
على هذا الأساس، فإنّ السيناريوهات المرتبطة بالتصعيد الأوكراني أخذ حجمه الطبيعي، أي الداخلي، فالرئيس الأوكراني الطامح إلى تجديد الولاية في آذار المقبل، لم يعد يمتلك من أدوات في الداخل سوى شد العصب القومي الأوكراني ضد «العدو الروسي»، خصوصاً بعد تهاوي شعبيته على خلفية الفساد المستشري في البلاد، والأهم بعدما فقد صفة «رئيس السلام» التي أتت به إلى الحكم قبل أعوام، في خضم الأزمة الداخلية الأوكرانية، ليتحوّل إلى «رئيس حرب»، كما باتت تصفه الصحافة.
والواقع أن بوروشينكو يجد نفسه أمام مأزق حقيقي مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية، يجعله مضطراً إلى اتخاذ خيار من اثنين: فإمّا تأمين الحشد الداخلي والدعم الخارجي من بوابة التصعيد مع روسيا، وإما تأجيل الاستحقاق الرئاسي برمّته، وهو احتمال بات قائماً مع إعلان الأحكام العرفية في البلاد.
وللتذكير فإنّ «عسكرة» الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا انطلقت في الواقع قبل أشهر، حين عمدت استخبارات كييف إلى اغتيال الكسندر زاخارتشينكو، رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية، الموالية لروسيا، وهو ما نظر إليه باعتباره تطوراً خطيراً في مسار الأزمة الأوكرانية، وانقلاباً من قبل بوروشينكو لمسار مينسك التفاوضي الهادف إلى تأمين حل سياسي للصراع الدائر في الشرق الأوكراني.
ومع أنّ التصعيد الشامل، الذي ينذر به بعض المحللين، يبقى أمراً مستبعداً، بالنظر إلى عوامل متعددة، ليس أقلها التفاوت الهائل في القدرات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، والتحفظات الأوروبية تجاه المغامرات الأوكرانية، إلا أن اللعبة الخطيرة الجارية في بحر آزوف، تشي بأن ثمة محاولات لتكثيف الضغوط على روسيا، لانتزاع ما يمكن انتزاعه منها على المسرح الدولي، بعد سلسلة القفزات التي حققتها في الفترة الماضية، ولا سيما في سوريا.
يد أميركية
بمعنىً آخر، يأتي التصعيد من البوابة الأوكرانية ضمن إطار محاولة أميركية للتشويش على الأجندة الروسية ولاسيما حول الملفات الحساسة، التي باتت، كما اتضح في الفترة الماضية، محصورة حول ملفين أو ثلاثة، أولها الأزمة السورية، وثانيها الوضع العام في الشرق الأوسط، وثالثها التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الرئاسية الأميركية، علماً بأن الملف الأخير بات مجرّد واجهة لصراعات داخلية في الولايات المتحدة، ويرجح أن يبقى أداةً استفزازية في يد الديمقراطيين لمواجهة الجمهوريين من جهة، وفي يد الجمهوريين لمواجهة روسيا من جهة ثانية، إلى حين ذهاب الأميركيين إلى صناديق الاقتراع، سواء لتمديد ولاية ترامب أو لانتخاب رئيس آخر.
وبالدرجة الأولى، يأتي التصعيد الأوكراني بمثابة محاولة للتشويش أولاً على الملف السوري، خصوصاً أن ثمة حقيقة، بدأ الأميركيون يدركونها حول فقدانهم المبادرة في هذا الملف، بحيث بات هامش الحركة لديهم مقتصراً على دعم المجموعات الكردية في شرق الفرات، في مقابل مبادرات سياسية روسية، تستكمل المبادرات الميدانية التي حققت معظم أهدافها بعد مرور ثلاث سنوات على الحملة العسكرية.
انطلاقاً من ذلك، يأتي الحراك الروسي الدبلوماسي، الذي اتخذ خطوات متسارعة قبل أيام من قمة بوينس آيرس، من خلال تحريك مسار أستانا مجدداً، لتشكيل اللجنة الدستورية التي يفترض، إن نجحت المبادرة بشأنها، أن تؤسس لحل سياسي مستدام، بناء على نتائج قمة سوتشي بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، التي خلصت إلى اتفاق حول إدلب.
وجاء تصدي الدفاعات الجوية السورية ليل الخميس الماضي لعدوان على منطقة الكسوة في ريف دمشق، ليظهر جهوزية الجيش السوري في تثبيت قواعد الاشتباك الجديد مع إسرائيل، أكبر المتضررين من مسار التسوية للحرب السورية.
هدوء روسي
ويبدو واضحاً أن رد الفعل الروسي الهادئ على محاولات التخريب الأميركية –التي اتخذت شكلين خلال الفترة الماضية، هما تكثيف الدعم للمقاتلين الأكراد في شرق الفرات من جهة، وإثارة إشكاليات في اللجنة الدستورية من خلال استحضار عامل «المجتمع المدني» كشريك في وضع الدستور– يأتي في سياق جهود موسكو لإنجاح المبادرات السياسية، خصوصاً إذا ما حسم الأتراك وجهتهم باتجاه الحل.
ومن المرجح، كما تشي بذلك التحركات السياسية، أن يتجاوز التشويش الأميركي الميدانين الأوكراني والروسي، وهو ما دخلت إسرائيل على خطه، من خلال الترويج لمعلومات بشأن مبادرة روسية تقضي بتخفيف العقوبات الدولية عن إيران في مقابل سحب قواتها والقوات الأميركية من سوريا، وهو ما نفته روسيا بشكل واضح، حين أشارت إلى موقفها المبدئي الذي يقضي بعدم التفاوض على مسألة العقوبات الأحادية، باعتبارها إجراء غير شرعي، «سواء تعلق الأمر بروسيا أو إيران».
ومن المؤكد أن محاولات التشويش العسكري والسياسي تستهدف قبل أي شيء آخر كبح الاندفاعة الروسية باتجاه باقي الأطراف الفاعلة والمؤثرة في الشرق الأوسط، ولا سيما السعودية، التي يستعد فلاديمير بوتين لزيارتها، في خضم التوتر القائم حالياً في العلاقات على خط الرياض–واشنطن بعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
تحوّل سعودي
لا يخفي الأميركيون خشيتهم من أن يسهم هذا التوتر في إتاحة الفرصة أمام روسيا للانفتاح بشكل استراتيجي على السعودية، التي ما زالت حتى اليوم تدور في الفلك الأميركي.
وفي الوقت الذي ينظر فيه الكونغرس بمعاقبة الرياض قدّم كل من وزير الدفاع جيمس ماتيس والخارجية مايك بومبيو ما بدا أنها مرافعة عن محمد بن سلمان استندت إلى معيارَين رئيسَين: حفظ أمن إسرائيل، ومواجهة نفوذ إيران.
لعلّ ذلك يفسر التناقض الواضح في موقف دونالد ترامب في قضية خاشقجي، إضافة إلى حرصه على عدم خسارة «البقرة الحلوب»، أو بعبارة أدق تقديمها هدية لفلاديمير بوتين على طبق من ذهب، خصوصاً أن الجانبين السعودي والروسي قد مهدا التربة بالفعل لمثل هذا التحول، منذ زيارة الملك سلمان قبل أشهر، وهو تحوّل لا يزال ينتظر تطوّراً ملموساً ليترجم على أرض الواقع، سواء بصفقات تسليحية استراتيجية (صفقة «أس–400») أو استثمارية (في الشرق الروسي).
وليس من قبيل المصادفة، في هذا الإطار، أن يتم تحريك أول دعوى جنائية ضد محمد بن سلمان في الأرجنتين، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وانتهاك حقوق الإنسان –وهو إجراء يأتي مباشرة بعد إعلان الكرملين عن عقد اجتماع بين الرئيس الروسي وولي العهد السعودي في العاصمة الأرجنتينية، ليكون بذلك أوّل لقاء يجريه ابن سلمان مع زعيم دولي منذ مقتل خاشقجي، وذلك بعد جولة مشوشة قام بها لعدد من الدول العربية، طارده فيها شبح الصحافي المقتول، لا سيما في تونس التي انتفضت ضد الزيارة.
وقبل وصوله إلى بوينس آيرس، قالت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إن القضاء الأرجنتيني بدأ النظر في مذكرة حول دور ولي العهد السعودي في جرائم حرب مزعومة وأعمال تعذيب نفذها مسؤولون سعوديون.
وأكدت المنظمة في بيان أنها قدمت طلبا أمام مدعٍ فدرالي، يتضمّن استنتاجاتها حول انتهاكات مزعومة للقانون الدولي ارتكبت خلال حرب اليمن، ووفقا لها، فقد «يُحمّل محمد بن سلمان المسؤولية الجنائية عنها كونه وزيراً للدفاع».
انطلاقاً مما سبق، يمكن القول إن ثمة مرحلة مفصلية لن تتأخر ملامحها في الظهور، خصوصاً وأن إلغاء الاجتماع بين ترامب وبوتين في بوينس آيرس، مؤشر شديد السلبية يمكن أن تتحدد من خلال ارتداداته، مسارات التصعيد والتسويات في الشرق الأوسط والعالم، أقله خلال الأشهر القادمة التي يمكن التوقع بأنها ستكون مصيرية للتوازنات والتحالفات على المسرح الدولي.
Leave a Reply