قبل أن يكتسحَ الأخطبوطُ التجاري شاشةَ التلفزيون، كنّا نجلس أمامَها فتمتصُّ منّا همومَ اليوم، إذ تُتحفنا ببرامج تُريح الأعصاب وتبعث البهجةَ في الروح، حيث كانت أيّام زمان، تتنوّع مابين البرامج العلميّة والثقافيّة والتاريخيّة غير المنحازة بالإضافة إلى البرامج الترفيهيّة لا التهريجيّة، ومازالت الكثيرات منها عالقةً في ذاكرتنا الجمعيّة، لم تغادرها لحدِّ اليوم.
فجأةً جلستُ أمامها مساءَ أمس، أبحث بواسطة «الريمونت كونترول» عن قناةٍ تُعيد إليَّ ألقَ تلك البرامج، فإذا بي أعثر على قناةٍ تنقلُ نقلاً مباشِراً وحيّاً وقائعَ احتفالات عيد الربيع في الصين الشعبيّة، حيث توالت المَشاهد التي تدغدغ المشاعر باعثةً فيها حياةَ البهجةِ والمرح، كانت عدسةُ الكاميرا تقترب وتنأى تستتبع السيّارات المزخرَفة بالألوان والأشكال اللامحدودة للأوراد والزهور والرموز الصينيّة المتعدِّدة، فكانت كلّ سيّارة تمرّ وكأنّها عروسٌ في ليلة زفافها، والشوارع تزدان بالأعلام واللافتات الملوّنة تعلوها شرائط الأضوية والأنوار النيونيّة مضاهيةً الزهور في تعدّد ألوانها وانسجام وتنوّع أشكالها، وأنا أتابع المشهد، انتابني إحساسٌ بأنّ المحتفلين في المهرجان وحاضريه، ومشاهديهم عبر شاشة التلفزيون قد غمرتهم جميعاً مشاعرُ البهجة والسرور والفرح بلا استثناء.
كانت ناطحاتُ السحاب بأجنحتها الدائرية المحيطة بطوابقِها، والمصمّمة على الطراز المعماري الصيني، تشعّ هي الأخرى بمختلف ألوان الأضوية، وتبدو مثل منارات تحاكي لألأةَ النجوم وسطوع الكواكب، وجموع الناس تحتها بملابسهم الملوّنة المزركشة وقبّعاتهم التي ترمز إلى برجِ صاحبها، حتّى أواني الطعام التي يحملونها بأيديهم لها أشكالٌ مميّزة ضاجّة بالزخارف المحبّبة التي قلّما نجد مثيلاً لها في بقيّة بلدان العالَم، وهم يرقصون بقلوبهم قبل أجسادهم، ويهزجون بوجدانهم قبل حناجرهم، يتمايلون مثل سيمفونيّات حقول أوراد، والفرح يطفو على وجوههم المغمورة بالسعادة والنشوة والإنشراح.
واختتاماً للإحتفالات، كتبَ كلّ واحد منهم أمنياته وأحلامه، وعلّقها على ورق الأشجار المبثوثة في كلّ اتّجاه، علّها تثمر في ربيع السنة القادمة، إنّهم يتفنّنون في ابتداع طرُق ووسائل السعادة الجماعيّة والترفيه عن النفوس، وترك الهموم وراءَ ظهورهم، كي يتمتّعوا بالحياة التي وهبها الخالقُ العظيم للإنسان، وتركَ له الخيار في أن يعيشها بسعادة، ويتمتّع بكلّ دقيقة منها، أو أن يجعل منها جحيماً يكون صانعوه أوّلَ المحترقين به.
هذا الشعب الذي يتفنّن بالإختراعات والإبتكارات، والتكنولوجيا المفيدة للإنسان، في عين الوقت الذي يتفنّن الأعراب في بلادنا العربيّة بتصنيع المتفجّرات والأحزمة الناسفة، وغسل عقول الشباب الضائع، وجرِّهم لتفجير أنفسهم وقتل الأبرياء وتدمير البلاد وتيتيم الأطفال وهتك الأعراض وانتهاك الحرمات، كلّ هذه الجرائم والمحرّمات بحجّةٍ وهميّة يتخيّلونها ظلماً وعدواناً في الفوز بالجنّة، والظفر بالحوريّات، كلّ واحد بعدد ضحاياه الأبرياء، لو قتلَ ألفَ بريء يظفر بألف حوريّة!
ترى هل أصبحت الجنّة مأوى للمجرمين والقتلة؟ وهل يعقل أنّ الحوريّة تقبل بالزواج من سفّاكي دماء خلق الله ومنتهكي الحرمات؟ فيا مموِّلي هؤلاء المجرمين وحروبهم ضدّ البشر المسالمين، ويا ناشري الفتن بين أبناء الشعب الواحد، لو صرفتم هذه الأموال في تعليم شبابكم، وإشباع جياعكم وهم كثرٌ، وصون أعراضكم، وتيسير أمور محتاجيكم، لكان طريقاً مبرِّراُ لدخولِ الجنّة، والتقيتم الرحمن بوجهٍ مبتشر، لابوجهٍ عبوسٍ من غضبِ الله عليكم في إراقة الدماء، فسحقاً لكم ولعقولكم المغلَقة ولنفوسكم المريضة.
Leave a Reply