كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم تنفع كل المبادرات والوساطات الخارجية والداخلية، في حل الأزمة الدستورية والسياسية، لتشكيل حكومة في لبنان برئاسة سعد الحريري، وقد حاول الرئيس نبيه برّي «لبننة الأزمة»، باعتبارها داخلية مئة بالمئة، وأن حلّها ممكن بتفاهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، غير أنه أخفق في تحقيق أي تقدم في تقريب وجهات النظر بالرغم من أن جهوده حظيت بمباركة «حزب الله» الذي دعاه إلى الاستمرار بمبادرته، لأن في سقوطها الخراب، كما أعلن رئيس مجلس النواب.
مبادرة برّي
الرئيس برّى كان قد أعطى لمبادرته مهلة أسبوعين، لفتح كوة في جدار الأزمة المستمرة بين الرئيس عون ومعه جبران باسيل من جهة والرئيس الحريري من جهة ثانية، لكن جهوده لم تكلل بالنجاح بسبب تعنّت الطرفين وتمسك كل منهما بشروطه.
إذ يرفض رئيس الجمهورية أن يسمي الحريري وزيرين مسيحيين، باعتبار أن المكوّنات الطائفية الأخرى في الحكومة سمّت وزراءها بنفسها.
في المقابل يرفض الحريري قبول حصر الوزيرين المسيحيين العالقين بالرئيس عون، لأن ذلك سيرفع عدد وزرائه في الحكومة من 8 وزراء إلى عشرة ما سيمنحه الثلث المعطل بعد التوصل إلى تسوية تقضي برفع عدد أعضاء الحكومة إلى 24 وزيراً بناءً لرغبة رئيس الجمهورية، بدلاً من 18 وزيراً كما جاء في تشكيلة الحريري الأولية التي قوبلت بتحفّظ بعبدا.
برّي اعتبر أن مسألة تسمية الوزيرين المسيحيين يمكن حلحلتها، ورأى أن الأزمة داخلية وذات طابع شخصي، ويمكن التوصل فيها إلى حلّ يرضي كل الأطراف بالتعاون مع «حزب الله». فاهتم رئيس مجلس النواب بتخفيض سقف شروط الحريري الذي بدعم بري عودته إلى رئاسة الحكومة، ويطالبه بعدم الاعتذار عن التكليف، بينما سعى «حزب الله» في المقابل لدى حليفه رئيس الجمهورية ورئيس «التيار الوطني الحر» على تخفيف سقف المطالب.
وبالفعل قام كل من المعاون السياسي للرئيس برّي، علي حسن خليل، والمعاون السياسي لأمين عام «حزب الله» ، حسين خليل، بمساعٍ على خط البياضة، مقر إقامة باسيل، وكذلك على خط قصر بعبدا، بالإضافة إلى التوجه إلى «بيت الوسط» للقاء الحريري. لكن في المحصلة، لم ينجح الخليلان في تقريب وجهات النظر المتباعدة، بين الشريكين الدستوريين في التأليف، رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، لتبقى ولادة حكومة جديدة في لبنان متعسرة بالرغم من خطورة الوضع الاقتصادي والاجتماعي القابل للانفجار.
عون يرفض الحريري
يبدو من مسار الأزمة، بأن الرئيس عون يرفض عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة، بعد سقوط التسوية الرئاسية، ولذلك فهو يضغط مستخدماً صلاحياته الدستورية باتجاه إحراج الرئيس المكلف لإخراجه، عبر الامتناع عن توقيع مراسيم تشكيل الحكومة، تحت ذرائع مختلفة تنضوي بمعظمها تحت عنوان معركة الصلاحيات الدستورية.
إذ يتمسّك عون بدوره الدستوري كشريك فعلي في تشكيل الحكومة، رافضاً أن يكون مجرد «باشكاتب» يوقّع على المراسيم، في حين يصرّ الحريري على أنه صاحب الصلاحية باختيار الوزراء وتوزيع الحقائب، ولا يتوجب عليه سوى التشاور مع رئيس الجمهورية بشأن الصيغة الحكومية والتوافق عليها.
غير أن التراشق الكلامي والتوتر السياسي القائم بين الرئيسين بات يؤكد أن الرجلين فقدا الثقة ببعضهما البعض، وسط قطيعة سياسية قائمة بين الحريري وباسيل، بالرغم من مساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والبطريرك الماروني بشارة الراعي لجمعهما والتي انتهت إلى الفشل في ظل إصرار الحريري على عدم العودة إلى «التسوية الرئاسية» مرة ثانية بعد أن كلفته غالياً سياسياً وشعبياً في لبنان، كما في علاقته مع السعودية التي لم ترض بعد عن عودته إلى الحكومة.
المبادرة والاعتذار
وفي ظل انسداد طرق الحل، باتت مبادرة برّي في حال الموت السريري، بعد أن أعلن «التيار الوطني الحر» عدم ثقته برئيس مجلس النواب كوسيط في الأزمة، فهو الذي دفع إلى استقاله حكومة حسان دياب لتمهيد الطريق أمام الحريري للعودة إلى السراي الكبير.
كما أن بري هو من جمع للحريري أصوات النواب المطلوبة ليتم تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، عبر تأمين نصف النواب زائداً واحداً ومن بينهم 22 نائباً مسيحياً، كإطار ميثاقي، وذلك رغم امتناع كتل مسيحية وازنة كـ«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» عن تسمية الحريري، واستقالة نواب «الكتائب».
ويتهم «العونيون» برّي بأنه يسعى إلى إعادة تركيب «تحالف رباعي» جديد، لإحياء المنظومة السياسية الحاكمة منذ ما بعد اتفاق الطائف، وهو ما أدى إلى ترنح مبادرة برّي وفقدان حظوظها بتحقيق خرق في جدار الأزمة، خاصة بعد اتهامه من قبل فريق رئيس الجمهورية بالانحياز إلى الحريري من خلال تمسكه بتكليفه ومحاولاته المستمرة لمنعه من الاعتذار الذي كان قاب قوسين أو أدنى لولا تريّث الرئيس المكلف بناءً على طلب برّي الذي يؤكّد بأن لا بديل عن الحريري، وأن تجربة حكومة حسان دياب، خير دليل على ذلك.
ويرىالمراقبون أن دخول بري على خط الأزمة، غيّر طبيعة المواجهة السياسية من الحريري–باسيل إلى بري–عون وهو ما قد يؤدي إلى تغيير التوازنات القائمة ويهدد علاقة الرئيسين بحليفهما «حزب الله»
ولكن على الرغم من المطبات والعراقيل التي تواجهه، يبدو أن بري لن يتخلى بسهولة عن مبادرته في ظل اشتداد الأزمة المعيشية الخانقة التي قد تُدخل لبنان في المحظور مع تدهور الأمور نحو الأسوأ. ومن هذا المنطلق أصرّ رئيس مجلس النواب على الحريري بالتريث في الاعتذار، ريثما يتحقّق انفراج ما، لاسيما وأن مبادرته تلقى دعماً داخلياً وخارجياً، خاصة من الرئيس الفرنسي، الذي اعتبر حراك برّي يندرج تحت سقف مبادرته، ويساهم في إبقائها حية وفاعلة، علماً بأن الحريري ترشّح باسم المبادرة الفرنسية لتشكيل حكومة إنقاذية لمنع سقوط الدولة والمؤسسات.
اللعب على وتر الطائفية
وكما في كل أزمة تحصل في لبنان، تستحضر الطائفية معها، ويبدأ اللعب على أوتارها، وتمارسها كل الأطراف السياسية بمختلف مكوناتها الطائفية والمذهبية. فقد لجأ الرئيس عون وتياره السياسي، إلى وضع شعارات طائفية تحت عنوان حقوق المسيحيين والعمل على استعادتها عبر الرئيس القوي الذي لا يتنازل عن حقوق طائفته المارونية أولاً، ثم الطوائف المسيحية الأخرى. وفي المقابل لا يفوت الرئيس المكلّف فرصة للاستعانة بـ«دار الفتوى» كغطاء سنّي لحماية صلاحيات موقع رئاسة الحكومة.
إذ يتهم الحريري عون بمحاولة العودة إلى مرحلة ما قبل الطائف، حين كان رئيس الجمهورية يتولى تشكيل الحكومة، وهذا انتقاص من صلاحيات رئيس الحكومة في دستور ما بعد الطائف، الذي نقل صلاحية اختيار رئيس الحكومة إلى مجلس النواب، وهي الهيئة نفسها التي تتولى انتخاب رئيس الجمهورية، مما يجعلهما متساويين دستورياً. وقد لاقى الحريري تأييد مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على المستوى الشخصي، كما صدر بيان عن المجلس الشرعي، منح دعماً للرئيس المكلّف، ووجّه رسالة مبطّنة إلى رئيس الجمهورية، محذراً من المس بصلاحيات رئيس الحكومة، وهو ما ينذر بتحول الأزمة من سياسية، إلى طائفية، بين رئيس الجمهورية الماروني، والرئيس المكلّف السُنّي.
الفوضى الخلاقة
أمام استمرار أزمة عدم تشكيل الحكومة، وانحلال المؤسسات، وتفاقم الأزمة المعيشية التي تزداد تعقيداً مع شحّ المحروقات بسبب عدم تمكن مصرف لبنان المركزي من الاستمرار في الدعم الذي قد يرفعه بالكامل قريباً، تدخل البلاد نفق الفوضى الخلاقة، التي تؤسّس لانهيار شامل، وهذا ما تؤكد عليه كل التقارير، وآخرها البنك الدوليّ، الذي وصف الأزمة اللبنانية الحالية بأنها الأشد على بلاد الأرز منذ حوالي قرنين، وصنفها بين أسوأ عشر أزمات مالية واقتصادية تعيشها دول العالم اليوم.
فالأزمة الحالية تفوق ما عاناه اللبنانيون في زمن الحرب الأهلية، وسط مخاوف أن يكون المستقبل القريب قاتماً إذا لم يحصل توافق سياسي للخروج من عنق الزجاجة التي أدخلت فيها البلاد عبر تراكم الأزمات الناجمة عن النظام السياسي الطائفي.
وقد بدأ الحديث عن ضرورة إعادة تكوين نظام سياسي جديد خارج كل الصيغ السابقة، والتي بدأت مع ما سمي «ميثاق 1943»، وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي ابتدع نظاماً لا مثيل له في العالم.
عملياً، دخل لبنان مرحلة الفوضى، مع تعطل الحياة السياسية وتوقف المؤسسات، واصطفاف المواطنين في طوابير للحصول على صفيحة بنزين، بينما انخفض عدد ساعات التغذية بالكهرباء إلى الحدود الدنيا، كما تراجع عمل المولدات الخاصة، وفُقد الدواء من الصيدليات، وارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى أرقام خيالية بينما تواصل القدرة الشرائية لليرة انخفاضها دون أن يحرّك هذا الوضع المأساوي ضمائر المسؤولين قيد أنملة، للعمل من أجل إنقاذ لبنان من الغرق، لأن مصالحهم الفردية –ببساطة– تتقدم على ما عداها، وصورتهم الطائفية يجب أن تبقى ناصعة أمام جمهورهم، الذي لا يحاسبهم، والاختبار هو في العام القادم، موعد الانتخابات النيابية، إن تمت بسلام.
Leave a Reply