تتشابه قصة الجالية الكلدانية في منطقة ديترويت مع قصص الجاليات العربية، فـ«مدينة السيارات»، كانت القبلة التي اجتذبت منذ بدايات القرن العشرين موجات متلاحقة من الوافدين إلى العالم الجديد، وخاصة المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط بحثاً عن حياة أفضل وفرص أغنى، تمثلت –آنذاك– بعرض هنري فورد الشهير لعمال مصانع السيارات: 5 دولارات في اليوم الواحد، في حين كان الفقر والمجاعة والصراعات تنهش بلدان المنطقة العربية.
الجالية الكلدانية –كما عموم الجالية العربية– استطاعت تحقيق المعادلة الذهبية في العالم الجديد، لناحية الاندماج في الحياة الأميركية من دون التخلي عن الثقافة الأم واللغة الأصلية. وعبر العقود برع المهاجرون والأجيال المتعاقبة في تحقيق الإنجازات على مختلف الصعد حتى باتوا رقماً صعباً في الحياة الاقتصادية والثقافية، والسياسية مؤخراً، في ولاية ميشيغن.
رحلة تثبيت الأقدام، لم تخل من الصعوبات والتحديات، وحتى المآسي في بعض الأحيان، ولكنها سرعان ما تبددت في نهاية المطاف وفشلت في كسر عزيمة الكلدان والعرب وإصرارهم على ترسيخ حضورهم ودورهم الذي يتنامى يوماً بعد يوم.
توثيق
في المشهد الكلداني، نشر الكاتب العراقي الأميركي أيوب (جايكوب) بقّال، كتابين يوثقان لتاريخ الكلدان الأميركيين في منطقة ديترويت، موظِّفاً تجربته الشخصية –كرجل أعمال مهاجر وصل إلى الولايات المتحدة
في 1977– لتوثيق تاريخ الجالية التي خطت أولى خطواتها في بلاد العم سام قبل أكثر من قرن من الزمن، والتركيز على أهمية الأجيال الجديدة من الكلدان التواقين للتعرف على تاريخ آبائهم وأجدادهم، ليس في أميركا وحسب، وإنما في بلادهم الأم، العراق أيضاً.
الكتاب الأول جاء بعنوان «صور من أميركا–الكلدان في ديترويت»، وقد صدر عام 2014 عن «دار آركاديا للنشر والتوزيع» بولاية ساوث كارولاينا، في حين حمل الكتاب الثاني عنوان «الجمعية الكلدانية الأميركية في ميشيغن» وصدر عن الدار نفسها عام 2018.
وبينما تصدى الكتاب الثاني لمهمة توثيق تاريخ الجمعية التي تأسست في 1957، وشكلت قطب الرحى بين المنظمات الكلدانية الأميركية، المتعددة الاهتمامات والتوجهات، فإن الكتاب الأول يتحدث عن تاريخ الرواد الكلدان الأوائل في العالم الجديد، ويتطلع إلى إلهام الأجيال الجديدة من الكلدان الأميركيين وتشجيعهم على الافتخار بثقافتهم والتمسك بها.
وفي هذا السياق، يقول بقّال لـ«صدى الوطن»: «إن الكتاب الأول يعني لي الكثير على المستوى الشخصي، وهو أقرب إلى التجربة الذاتية المباشرة، وقد كتبته بدافع إلهام الأجيال القادمة لحثها على المضي قدماً في تحقيق المستقبل الزاهر، والحفاظ في الوقت ذاته على تاريخ الرواد الأوائل».
البدايات
يشير بقّال إلى أن المهاجرين الكلدان الأوائل وصلوا إلى أميركا في مطلع القرن العشرين وحملوا حينها وثائق تثبت انتماءهم إلى «بلاد ما بين النهرين»، لأن العراق لم يكن قد تشكل كدولة بعد. ويضيف: «كانوا يتعرضون للتمييز، بسبب أسمائهم ومعتقدهم وثقافتهم المختلفة، إضافة إلى تحدثهم بالآرامية، رغم أنها لغة السيد المسيح».
ويعزو نجاح أبناء جاليته في المغترب الأميركي إلى «فطنتهم وذكائهم في إدارة الأعمال التجارية، إلى جانب تمسكهم بالروابط العائلية العميقة بينهم»، لافتاً إلى أن الأجيال اللاحقة بدأت تتطلع إلى متابعة التعليم الأكاديمي في مجالات الطب والهندسة والمحاماة وغيرها.
يثني بقّال على العائلات الكلدانية التي فتحت خزائن ذكرياتها وزودته بالمعلومات والصور الفوتوغرافية التي شكلت المادة الأساسية للكتاب الذي استلهم المؤلف فكرته خلال زيارته لأحد فروع مكتبة «بارنز آند نوبيل»، حيث وقع بالصدفة على سلسلة من الكتب بعنوان «صور من أميركا»، وتضمنت كتباً حول العديد من الجاليات في الولايات المتحدة، ولم يكن الكلدان بينهم.
يستعرض الكتاب قصصاً متنوعة مدعومة بالصور الفوتوغرافية، مع شرح مبسط، وبلغة إنكليزية سلسلة، لأبرز فصول الجالية الكلدانية التي يزيد عمرها في الولايات المتحدة عن 110 أعوام، حيث تثبت الوثائق –بحسب الكتاب– أن أول كلداني وصل إلى العالم الجديد، وإلى مدينة ديترويت تحديداً، كان في 1904.
يقع الكتاب في 128 صفحة من القطع المتوسط، ويضم قرابة الـ200 صورة، ويتألف من تسعة فصول، هي على التوالي: تعريف الكلدان، اللغة والديانة، المجيء إلى أميركا، ديترويت مدينة السيارات، العادات الجديدة، الحياة الاجتماعية، الأعمال والأعلام، المنظمات والأندية، الكلدان الجدد في الولايات المتحدة.
أما كتاب «الجمعية الكلدانية الأميركية في ميشيغن»، فقد نشر بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ75 للجمعية التي باتت تضم أكثر من 900 عائلة كلدانية ساعدت في ترسيخ المنظمة التي غدت مركزاً اجتماعياً وثقافياً في ولاية ميشيغن.
والكاتب الذي عمل في الجمعية لمدة 30 عاماً في مختلف المناصب والمستويات، يصفها بأنها «أم جميع المنظمات الكلدانية في ولاية ميشيغن».
وفي مقدمة الكتاب، كتب رئيس «غرفة التجارة الكلدانية الأميركية» مارتن منّا: «لا يوجد شخص أفضل من بقّال لكي يكتب عن تاريخ الجمعية وإنجازاتها»، مضيفاً «إن جايكوب يجسد ما يعنيه أن يكون المرء كلدانياً أميركياً ناجحاً».
محطات تاريخية
ينتشر الكلدان الأميركيون في جميع أرجاء الولايات المتحدة إلا أن كثافتهم الكبرى تتركز في منطقة ديترويت حيث تزيد أعدادهم عن 150 ألف نسمة، كما يعيش حوالي 50 ألفاً منهم في ولايات كاليفورنيا وإلينوي وأريزونا.
بدأت الهجرات الأولى إبان العهد العثماني، حيث لم يكن العراق قد تشكل بعد، ككيان سياسي، وتضاعفت الموجات التالية من المهاجرين بعد سقوط الحكم الملكي في 1958. وبعد نصف قرن من تشكلها، غدت الجالية الكلدانية في ميشيغن قوة مؤثرة على مستوى المدينة والولاية، بحيث بات أبناؤها يملكون قدراً كبيراً من الاستثمارات، وأصبحت لهم كنائسهم الخاصة ووسائلهم الإعلامية وأسواقهم التجارية.
في عقد السبعينات، ازدهر «الحي الكلداني» بديترويت، بشكل لافت حتى غدا نقطة جذب للمهاجرين الجدد من الشرق الأوسط، لكن عقد الثمانينات حمل الكثير من المصاعب بسبب تدهور ديترويت ونزوح السكان البيض إلى الضواحي تاركين خلفهم المدينة التي تحولت في العقود التالية إلى مرتع للجريمة والمخدرات والفقر، مما حمل الكلدان إلى الانتقال إلى ما يعرف بمنطقة «المايلات» في مقاطعتي ماكومب وأوكلاند، حيث مركز ثقلهم حالياً.
في 1997، تأسس «المجلس العربي الأميركي والكلداني» (أي سي سي)، لتقديم خدمات عامة مثل الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والتدريب المهني وتعليم اللغة الإنكليزية. وساهم المجلس في مد الجالية الكلدانية بالطاقة والحيوية ومكنها من التغلب على المشاكل الاعتيادية والمستجدة في حياة المهاجرين الجدد.
يمكن شراء الكتابين عبر موقع «آركاديا ببليشنغ» وموقع «أمازون»، كما أنهما متوفران في الأسواق المحلية في مدن وست بلومفيلد وستيرلنغ هايتس وفارمنتغون هيلز، إضافة إلى المراكز الثقافية الكلدانية، بما فيها نادي «شيناندوا كانتري كلوب» في وست بلومفيلد.
نبذة عن بقّال
أيوب (جايكوب) بقّال من مواليد مدينة تلكيف بمحافظة نينوى العراقية عام 1955. أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس العراق وتابع دراسته بالهندسة التكنولوجية في المملكة المتحدة. متزوج وله ولدان وخمسة أحفاد.
ناشط مجتمعي مخضرم، بذل الكثير من الجهود من أجل مساعدة اللاجئين العراقيين، ويتمتع بحماسة لافتة لتطوير الجالية الكلدانية ورفع شأنها ومكانة أبنائها، خاصة لناحية تبوئههم المناصب السياسية والوظيفية المهمة في ولاية ميشيغن.
يعتبر من رجال الأعمال الناجحين في ديترويت في حقل العقارات والبناء والإعمار، وقد تولى العديد من المناصب القيادية في منظمات الجالية وجمعياتها وأنديتها.
Leave a Reply